شبكة النبأ: تسعى الشعوب والامم لبناء
نفسها، بما يتسق ومعالم العصر الذي تعيشه، لكي لا تبقى في أسفل القائمة
او في قعر الحياة، لهذا انشغل المفكرون والمخترعون والمكتشفون،
بالكيفية التي تساعد أممهم وشعوبهم على تحقيق حياة أفضل.
وهكذا ينبغي على المسلمين، كأمة رائدة تصدرت الامم الاخرى، في
التنوير ونقل الانسانية من متاهات الظلام الى آفاق النور، ينبغي عليها
أن تواكب العصر الراهن، وأن تغادر القعر بمساعي علمائها ومفكريها
ومثقفيها، وهذا الدور على الرغم من كونه طوعيا او يبدو كذلك، لكن
أهميته القصوى تكمن في حث الناس من الطبقات الدنيا، على أهمية الارتقاء
الى مراتب أعلى.
وهذا ما فعله الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني
الشيرازي (قدس سره) عبر طرحه للافكار التقدمية الرائعة، في عموم
مؤلفاته الضخمة، والكثيرة التي خلّفها لامته، أمة الاسلام بعد رحيله،
ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، كتابه القيّم الموسوم بـ (القطرات
والذرات)، فهو مؤلَّف ينطوي على حزمة من الافكار البرامجية الدقيقة،
التي بمقدورها – فيما لو تم اعتمادها- نقل المسلمين من حالة السكونية
الراهنة، الى الحركية الديالكتيكية التقدمية المتواصلة.
فالامام (رحمه الله) يطرح في كتابه هذا، قانون التراكم الخبروي
والمادي معا، ويقدم بالاسانيد والادلة القاطعة، إمكانية تطور وتقدم
وارتقاء المسلمين، فيما لو لجؤوا في تنظيم حياتهم وتسيير شؤونهم، الى
هذه الافكار والقوانين التي طرحها الامام في (القطرات والذرات).
إن الامام الشيرازي يركز على ايجابية وخطورة التراكم في آن، فإذا
كان التراكم يتحرك في فضاءات الخير، فذلك هو ما يهدف اليه الانسان الحق،
ولكن ثمة تراكم يتحرك في فضاءات الشر، وهنا مكمن الخطورة، لذا لابد أن
يستثمر الانسان، فردا او جماعة، قانون التراكم في وجهه الايجابي حصرا،
وفقا لخطط مبرمجة ودقيقة للنهوض والتطور، يقول الامام الشيرازي في
كتابه هذا: (إن الحياة دقيقة.. دقيقة.. فهي لبنة لبنة، وذرة ذرة، وقطرة
قطرة، فالعمل فيها اعتباطاً ـ ولو بمثل هذا القدر القليل ـ ينتج
النتائج السيئة).
إذن ليس هناك مجال للمزاجية والعشوائية، فينبغي العمل وفقا للتخطيط
المسبق، وإلا ستكون النتائج والعواقب وخيمة، لهذا اعتمدت الامم
المتقدمة قانون التراكم لتحقق قفزات هائلة، في مضمار التقدم التقني
والتكنلوجي عموما، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي حين يقول في كتابه
المذكور بهذا الصدد: (هناك الكثير من أعداء المسلمين أخذوا بقانون (الذرات
والقطرات) فتقدموا علينا).
وثمة ركن مهم، ينبغي أن يرافق قانون التراكم الذي طرحه الامام
الشيرازي، ذلك هو ركن الاتقان الذي يمثل صورة الانتاج السلعي الافضل
وجوهره، وهو يدعم هذا القانون بقوة، إذ يضرب لنا الامام أمثلة موثقة
وتأريخية، عما يقدمه قانون القطرات والذرات للامم، ومنها على سبيل
المثال الامة اليابانية، حين اعتمدت عامل الاتقان السلعي والانتاجي
عموما، لغرض التطور، إذ يقول الامام بهذا الخصوص: (إني أذكر قبل الحرب
العالمية كانت البضائع اليابانية معروفة بعدم الإتقان ولذا لم يكن يرغب
الناس فيها. أما بعد أن جعلوا في بلادهم التعددية الحزبية، وانتهجوا
منهج الإتقان في ذرة ذرة وقطرة قطرة من أمورهم حتى وصلوا اليوم إلى ما
وصلوا إليه من الجودة في مختلف بضائعهم وأصبح الإقبال عليها والمشترون
لها أكثر، وأحياناً حتى مما يصنعه الغرب. وهكذا كله بسبب الإتقان في
الأمور من الذرات والقطرات إلى غير ذلك).
وطالما ان قاعدة او قانون القطرات والذرات، يمتلك مثل هذه السطوة
الكبيرة التي بامكانها ان تنقل الامم، الى مراتب أعلى من الرقي، فعلينا
كمسلمين أن نتعامل في صنع دقائق وتفاصيل حياتنا، وفقا لهذا القانون،
وأن نبتعد عن العشوائية او اللامبالاة، في التعامل مع قاعدة القطرات
والذرات، لانها أثبتت قدرتها القاطعة على صناعة الحياة في جانبيها
الايجابي أو السلبي، وفقا لطبيعة استثمار الانسان لهذه القاعدة. لذا
يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (من الضروري في تطبيق
القاعدة التي ذكرناها ـ قاعدة الذرات والقطرات ـ أن لا تتجمع الأمور
الصغيرة الضارة حتى تصير كبيرة لا تحتمل سواء في التكوينيات أو
التشريعيات كصلاة القضاء، وصيام القضاء، والديون، والأخماس، والزكوات
وما شابه، وهكذا المشكلات الصغيرة فبجمعها تكون كبيرة، وربما تصل إلى
ما لا يقدر الإنسان ـ قدرة طبيعية ـ على إنجازها أو التخلص منها).
إن الافكار الواضحة التي يطرحها الامام في كتابه هذا، تدعو للتأمل
والفخر حقا، فهي سهلة التنفيذ كما انها سريعة الفهم، من لدن جميع
المستويات المعرفية، لهذا لابد من اللجوء لها إذا ارادت امة الاسلام ان
تواكب العصر، وترتقي بواقعها الى درجات أفضل، إذ يقول الامام الشيرازي
بدقو ووضوح في كتابه هذا: ينبغي (على الإنسان أن يهتم بالصغائر من
الأمور أيضاً مهما كانت صغيرة حتى تنتهي إلى الكدس، خيراً أو شراً،
تقدماً أو تأخراً، إيجاباً أو سلباً.. والعمل ذرةً ذرة وقطرة قطرة
سلباً أو إيجاباً يؤثر في النتيجة كذلك، كما هو ثابت في الحكمة. أمّا
ما يقوله البعض من أن اللازم أن يعمل الإنسان إما عملاً كبيراً أو يترك
ـ كما أصبحت عادة كثير من الناس وحتى بعض العاملين ـ فهو غير صحيح،
فإنهم بقولهم:- أو يترك- أخّروا المسلمين كافة، لأن الحياة ذرات
وقطرات).
ومن الجوانب المهمة على مستوى البشرية جمعاء، تلك النقطة الخطيرة
التي يثيرها الامام الشيرازي، والتي تتعلق بمستقبل الاجيال القادمة،
والمسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق من يسبقهم من الافراد والجماعات،
سواء كانوا دولا او شعوبا او امما، حيث لابد أن نحافظ جميعا على حقوق
الاجيال القادمة، في العيش الكريم من خلال التعامل الصحيح من الموارد
التي تتحصل عليها الطبيعة، لذا لابد من التعامل معها وفقا لقاعدة او
قانون القطرات والذرات، الذي طرحه الامام الشيرازي، ليس للمسلمين فحسب
إنما للعالم اجمع، لكي تصبح المسؤولية واضحة وجماعية، تشمل البشرية
كلها، من الاحياء الذين لا يتعاملون بصورة صحيحة ودقيقة، مع ما يتوافر
من موارد للانسان حاضرا او مستقبلا، لهذا يؤكد الامام الشيرازي بوضوح
لايقبل اللبس على: (إن البشر المعاصر ليس له إلاّ أن يصرف بقدره حسب
قانون- لكم- الوارد في القرآن الكريم، بحيث لا يضر الأجيال القادمة،
وذلك بعد ملاحظة النسبة الدقيقة، وإلا كان ذلك إسرافاً.. وإضاعة
للمال.. وتعدياً على حقوق الآخرين.. وصرف ما يرتبط بالأجيال الآتية.
وهكذا يلاحظ الشرع والعقل جميع المواد بميزان دقيق لا إفراط فيه ولا
تفريط). |