الغرور الأمني... فن الحكم الانتحاري

رياض هاني بهار

المعطيات الأخيرة بسقوط الأنظمة العربية الشمولية دلاله واضحة على سقوط مفاهيم الأمن التقليدية التي أنتجتها السياسة بعقود الستينات والسبعينات وبقت أسيرة تلك المفاهيم البالية ولهذه المدارس الفاشلة أخلاقيات وأساليب اعتمدتها واعتبرتها منهجا ومنها الغرور الأمني الذي وقعت في فخه كل قادة الأمن في الدول قبل انهيارها.

لتوضيح معنى الغرور الأمني: قد تصاب بعض الأجهزة الأمنية نتيجة تواصل نجاحاتها في المواجهات الأمنية بنوع من الغرور الأمني، ذلك الغرور الذي يقصد بـه" إعطاء تلك الأجهزة الأمنية والكوادر لنفسها قدراً يفوق حجمها الحقيقي سواء من حيث الكم أو من حيث الكيف، إلى الحد الذي يجعلها تبالغ في حجم قدراتها، فالمتكبر يبجل نفسه عن رتبة المتعلمين، والمعجب يستكثر فضله على استزادة المتأدبين، التكبر هو شعور بالتشامخ يتم إظهاره بطريقة متغطرسة أو بادعاءات وقحة أو بسلوك متعجرف، وان من حسن الخلق أن يتصف الإنسان بالتواضع هذا المفهوم الذي حثت عليه الديانات السماوية الثلاث.

واذا أمعنا النظر في الأمر الإلهي بالابتعاد عن الكبر والغطرسة نجد ان الله قد أمرنا بذلك حرصا منه تعالى على سيادة المحبة والاطمئنان بين الناس، الأمر الذي يحقق سعادة الجميع، بالإضافة الى الديانات الوضعية من مثل الهندوسية والكنفوشية والبوذية، وما ذلك الا لأن هذه الصفة تحب الناس بصاحبها وتجعله مثلا يقتدى به، قال تعالى: «ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا» (الإسراء: 37).

وقال أيضا: «واقصد في مشيك وأغض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» (لقمان: 19)، إن التكبّر والغطرسة سبب كل الشرور وهذه الصفات هي صفات غير مبررة، ومن الأدب ان نتحاشاها حتى لا ينفر الناس منها ولكي يكون هناك نوع من الألفة بيننا وبين الآخرين أثناء تعاملنا معهم صفة تسلب الفضائل وتكسب الرذائل وثقافة رجل الأمن يجب أن تكون شاملة انسجاما مع إنسانيته، ولا يجوز غسل دماغه لصقله فقط بالثقافة الأمنية المقصورة على حماية النظام، بل تشمل أيضا حماية حياة الإنسان بغض النظر عن لونه وديانته وعقيدته ووجهته وانتمائه لأنها مقدسة ولا حق لسلبها إلا لله عز وجل ووفقا لأوامره ونواهيه.

رجل الأمن في هذا الاختبار يحدد مصيره ويحدد إنسانيته من عدمها، فإما أن يكون إنسانا يحافظ على حياة الآلاف من أبناء شعبه ووطنه، وإما أن يكون حطبا للنظام الفاسد يحرق نفسه بسفك دماء أبناء بلده الثرثرة والاستعراض إحدى أشكال انتحار القادة الميدانيين الذين يعشقون التعبيرات الجسدية، والذين يشبعون أهوائهم من خلال الظهور بمظهر القوي والمسيطر، كما أنهم يقدمون المعلومات الخاصة للعملاء وللمتطفلين بالمجان.

 وحسب خبرتي الشخصية، ان اغلب القادة الصغار مصابة بالغرور الأمني، وان السبب الأساسي عدم إدراكهم، لمفاهيم علم الأمن لمستويات الفعالين ميدانيا، وهناك مستوى عملي عالي المستوى يختص به قادة الأجهزة الأمنية وهو الأمن المهني، وللأسف الجميع حتى اللحظة يعمل كل على هواه، ولا توجد مفاصل لهذه المسألة، وباستطاعة أفراد الشعوب تغيير الثقافة السائدة في التعامل مع النظام ومسؤولية من خلال سلوك متزن ضمن حدود وأطر ثقافية في التعامل لا تسمح بالقول مستقبلا عن رأس النظام أنه استخف قومه فأطاعوه.

لا يفرق الجلاد بين القوة وبين القسوة، بين قوة الدولة وبين قسوة الأجهزة، قوة الدولة تكمن في سلطة القانون باعتبارها أداة الحكومة لتحقيق العدالة، وقسوة الأجهزة هي أداة الجلاد للتخلص من الخوف والفشل والعجز القابع في داخله، الخوف من حقوق المواطنين وحريتهم وجدارتهم، والعجز عن التواصل معهم، ولذلك تتصاعد باستمرار رغبته المريضة بالسيطرة عليهم.

لقد كان شعار (مديرية الأمن العامة): (إذا لم نجعل من كل مواطن شرطياً سنحتاج إلى شرطي على رأس كل مواطن) !! ولكن هذا مستحيل، من المستحيل إلغاء المعارضة أو جعل الجميع يوافقون على ما لا يقتنعون به، من المستحيل انتصار الاستبداد واستمراره، ليس لأن قوة الشعب غير محدودة وإن عدد المواطنين هو دائماً أكبر من عدد عناصر الأجهزة الأمنية، بل لأن ثقافة القتل والإبادة هي ضد إرادة الحياة، ضد قوانينها الخفية التي لا يستطيع الحاكم مهما بلغ من جبروت أن يُدركها أو يسيطر عليها، ولذلك تساقط الطغاة والمستبدون عبر التأريخ الواحد تلو الآخر، تساقطوا أذلاء وبقيت شعوبهم وانتصرت.

والقائد الأمني الذي يتحلى بالفضائل يحقق السعادة لأن السعادة هي نتيجة الفضيلة كما أسلفنا ومن الفضائل الشجاعة والعفة والعدل والحكمة والحزم والاعتدال والاستقامة، فإذا تحلى القائد بالشجاعة والعدل والحكمة والحزم والاعتدال والاستقامة يكون قد تمكن من ضبط نفسه فلا تميل نفسه نحو سوء استعمال القوة لأنه لا يكون عندها عادلاً ولا حازماً، فالحزم يتطلب الحكمة والاعتدال من غير تطرف ولا مغالاة، والعدل يستوجب الاستقامة والعفة والشجاعة مرتبطة بالحزم في قول الحق وفعله، والعفة مرتبطة بالإيثار واعتدال الميل إلى اللذة وخضوعها للعقل، وكذلك الحكمة التي تستند إلى العقل والمنطق، وضبط النفس ومجاهدتها من أعظم الأمور لأن النفس أمارة بالسوء، ومجمل القيم والفضائل التي سبق ذكرها تحدد الإطار الأخلاقي لعمل القائد الأمني ومغادرة التفكير الامني الشمولي.

* خبير بالشؤون الأمنية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/أيلول/2011 - 22/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م