كنا عربا اصبحنا خليجا وبحرا متوسطا

د. مضاوي الرشيد

فتحت الثورات العربية مجالا جديدا لتبلور منظومات قديمة متجددة علها تجد في الواقع العربي المتذبذب الراهن فرصة تاريخية لتثبيت بناء هويات قد سبق ان طرحت دون ان تلقى حشدا خلفها لتتكرس كمنظومة لاعادة صياغة الكيان العربي ككيان منقسم على ذاته منفصل عن تاريخه وواقعه. فمنذ الخمسينات من القرن الماضي تصدرت القوى الغربية لمشروع الهوية العربية بكافة الوسائل المتاحة لتنفي عروبة منطقة كاملة وتنزع عنها وحدة سياسية وثقافية واجتماعية ودينية وتعثر الحلم العربي وكاد ان يندثر تحت وطأة هجمة خارجية عنيفة وانظمة عربية متسلطة رفعت شعار الوحدة العربية ومارست انواعا من القمع والديكتاتورية. فتبلورت فكرة الوحدة كفكرة مرتبطة بهيمنة بعض العرب على العرب الآخرين.

ولم يكتب للمشروع اي نجاح ملموس بسبب هذين العاملين المهمين لاي نجاح او استمرارية وبعد تقهقر المشروع العربي دخلت المنطقة الى معرف دخلت المنطقة الى معرف جديد تحت مسمى الشرق الاوسط مهمته كانت منذ بدايتها تفعيل الوجود الاسرائيلي والكيان الصهيوني في المنطقة كحقيقة قائمة. وجاء مصطلح الشرق الاوسط كمصطلح أمني اولا وتمييع لهوية المنطقة فبرزت مؤسسات غربية سياسية وثقافية وامنية واستخباراتية معنية بما يسمى الشرق الاوسط ومصطلح يصبو الى مركزية اسرائيل ثانيا في منطقة عربية ككيان دائم وجزء من نسيج المنطقة وبدأ المصطلح يتوسع لتدخل ايران وتركيا كجزء لا يتجزأ من بحر واسع متعدد الثقافات والهويات واللغات في محاولة لتمييع المركز العربي وثقله البشري والحضاري.

وبرزت بعد ذلك مسميات اخرى هدفها اعادة رسم الهوية الحضارية للقلب العربي بعد فشل منظومات الشرق الاوسط. ومن هنا برزت محاولتان جديدتان الاولى تقسم المنطقة الى خليج واخرى الى بحر متوسط وقد تزامنت هذه المحاولات مع هجمة اقتصادية على المنطقة العربية الاولى تحاول ربط الدول المطلة على منطقة الخليج بمنظومة الهوية المخترعة الجديدة تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي واخرى تربط الدول المطلة على البحر الابيض المتوسط بما يقابلها من دول اوروبية في شماله وبذلك تنقسم البحيرة العربية الى منظومتين خليجية ثرية واخرى متوسطية ذات ثراء محدود ترتبط اقتصاديا باوروبا تماما كما هي الخليجية وبذلك تمهد المنظومة الاقتصادية لهيمنة وتبعية من طرفي العالم العربي للاقتصاد الاوروبي.

ولم يبق للعالم العربي من اطار مؤسساتي سوى جامعة الدول العربية كهيكلية هشة بيروقراطية غير قادرة على اي حراك او عمل جماعي في مواجهة اي مشكلة سياسية او اقتصادية فينفرط العقد العربي تحت ضغط عمليات الشد الممارسة على طرفيه الخليجي والمتوسطي. وفتحت الثورات العربية باب الامل لتدخل منه منظومات الخليج والمتوسط مرحلة التفعيل الحقيقي وتكرس الانقسام الدائم المرجو. فمنذ التغيير الذي حصل في تونس ومصر والان في ليبيا يتردد مصطلح البحر المتوسط من جديد كحقبة تاريخية وفرصة تناجي مخيلة السياسيين في اوروبا وخاصة فرنسا وايطاليا لاعادة حلم قديم من برلسكوني وساركوزي ومنظره هنري ليفي الى آخرين يحلمون ببحيرة شرق اوسطية جديدة تجمع الدول الاوروبية على الضفاف الشمالية للمتوسط مع نظيرتها الجنوبية. وبدأنا نسمع ان الجمهوريات القادمة الديمقراطية ستجعل التجانس السياسي محورا مركزيا لتنفض هذه الجمهوريات عنها الحلم العربي وتتجه شمالا خاصة وان هذه المجموعة قد صدرت حشودا بشرية كبيرة استقرت مهاجرة الى الشمال. وقد بدأت بالفعل المؤتمرات تحت عنوان الديمقراطية الجديدة في ما يسمى ماري نوسترم وهو الاسم الروماني القديم الذي تحت رايته توسعت الامبراطورية الرومانية من معقلها في روما الى مناطق عربية في الجنوب.

وتم استحضار هذا المصطلح القديم اليوم تماما كما كانت الفاشية والنازية تفعل من اجل بسط هيمنة عسكرية استعمارية على المنطقة العربية في شمال افريقيا ولا ننسى قبلها المنظومة الفرنسية التي اعتبرت الجزائر جزءا لا يتجزأ من الجغرافيا الفرنسية التي غطاها البحر الابيض المتوسط فسقطت المنطقة كلها تحت هيمنة استعمار قادم من الشمال واستدعاء المصطلح في مرحلة الثورات العربية مدعاة للشك والريبة خاصة بعد ان استثمرت الدول الاوروبية المعنية بالامر اموالا باهظة ودعمت الناتو في قصفه الحالي على ليبيا تحت ذريعة تخليص الليبيين من عقيدهم ممهدة بذلك لعلاقة ستطول مهما حاول الليبيون التملص منها ولن يكون ذلك بسهولة. اذ ان المخطط قد بدأ بعد عملية تفكير طويلة وضخ لاموال طائلة لن تسكب من اجل دموع اطفال ليبيا فقط. ورغم التغني ببحيرة المتوسط التي سيلتحم جنوبها مع شمالها الا اننا نجد محاولات اوروبا المتوسطية خلال العقود الماضية كانت دوما مشغولة بوقف المد والهجرة من الجنوب الى الشمال ووضع جميع العوائق الامنية والسياسية في وجه محاولات الانتقال من الجنوب الى الشمال لدرجة ان صفقات قد تم تفعيلها من اجل التقاط المهاجرين على شواطئ البحر الابيض المتوسط الجنوبية والحجر عليهم في مخيمات اشبه ما تكون بالمعسكرات البشرية من اجل ايقاف تيار الهجرة الى الشمال.

 لذلك يبدو التغني بالمنظومة المتوسطية فاترا غير معبر عن حقيقة الكيان الجديد المروج له اعلاميا وسياسيا والذي ليس له اي هدف سوى وضع اطار جديد لهيمنة فرنسية ايطالية تكون مرتبطة بالدين الذي تحكم بعد المشاركة في دعم الثورة الليبية وان كانت الدول الاوروبية تطمح لصفحة جديدة تربطها بالديمقراطيات المتوسطية الجديدة الا اننا نذكر ان فرنسا ظلت متمسكة بحليفها التونسي بن علي. واقترحت مساعدته في لحظته الاخيرة ووقفت متشنجة امام التغيير المصري وبعد ان اتضحت صورة الثورات العربية انقلبت فرنسا لتصبح مساعدا لثوار ليبيا وحاضنا لمجلسهم الانتقالي مدافعا عن الحرية والديمقراطية.

تبقى المنظومة المتوسطية باهتة غير قادرة على ان تكون منظومة تضمن المساواة والعدالة بين الشمال والجنوب. ففرنسا وغيرها من الدول الاوروبية المتهافتة على حوض البحر الابيض المتوسط لا تطمح الا الى هيمنة اقتصادية سياسية ثقافية خاصة وان اوروبا العجوز تمر في اسوأ مراحل نموها في هذه اللحظة وتتهاوى اقتصادياتها الواحدة بعد الاخرى خاصة بعد ان حجمها اقتصاد دول جديدة دخلت لتنافسها في عقر دارها وتقف حائرة امام النمو الاقتصادي الصيني والروسي خاصة وانه امتد الى المتوسط ذاته التي تحاول اوروبا استرجاعه واسترجاع امجادها فيه.

اما في الجهة العربية الثانية حيث لدول اوروبا مصالح اقتصادية تشترك فيها مع نظيرتها الامريكية نجد ان نادي اثرياء الخليج سيبقى المنظومة السهلة لابتلاع مشاريع التنمية والنفط معا وقد دخلت فرنسا الى هذه المنطقة من باب جديد خاصة وانها كانت مغيبة تاريخيا عن دول الخليج بسبب ارتباطها بالمشروع الانكلوسكسوني الاستعماري القديم وجاءت خبراتها بالطاقة النووية كمدخل تطل به فرنسا على المنطقة الخليجية هذا بالاضافة الى مشروع القواعد العسكرية الجديدة في دول كالامارات وغيرها. وفرنسا الديمقراطية بخطابها الثوري القديم عن المساواة والاخاء والعدالة قد ينفعها في ليبيا ولكنه سيندثر امام ملكيات وامارات مجلس التعاون حيث نجدها تستجدي ثراء هذه المنظومات وتتغنى ببريق المتاحف الجديدة المقامة هناك كثغور للتنوير الفرنسي ولن يحد من تمددها سوى علاقات قديمة تاريخية ربطت المنطقة ببريطانيا سابقا والولايات المتحدة بعدها فيشتد التنافس بين هذه الدول على ضفة الخليج العربي.

وبما ان تقسيم المنطقة العربية الى متوسط وخليج قائم على قدم وساق نجد ان بعض المناطق العربية ستبقى متذبذبة. خذ مثلا المغرب والذي يحاول الجمع بين منظومات 'الامة المغاربية' والهوية المتوسطية ومؤخرا وجد نفسه على عتبات الهوية الخليجية وصرة حاتم الطائي الفضفاضة هذا بالاضافة الى الاردن حيث تبقى هويته مبهمة في عملية التقسيم المتوسطي الخليجي فلم يصل الى المتوسط بعد ولكنه يجتذب باتجاه النادي الثري حفاظا على سلامة عرشه في منطقة ملتهبة وبما انه ربما بوابة السعودية على سورية المتوسطية قد يجد نفسه كمنطقة عبور او جسر مرور فقط لا غير.

اما سوداننا بعد عمليات الاقتطاع والبتر قد يجد نفسه هو الآخر منفيا من بحيرتي المتوسط والخليج ولن يجد الا النيل أزرق او أبيض كان ليستقي منه هوية جديدة فريدة متوحدة وتبقى المعادلة الصعبة والعسيرة والتي لن تصبح متوسطية او خليجية وهي عراقنا الذي تم اخراجه من العالم العربي اولا والخليج ثانيا فأين سيتم اعرابه في منظومات التقسيم الجديدة القائمة على قدم وساق وهل سيبقى ملحقية فارسية تدغدغها الكويت بين الحين والحين بمشاريع الموانئ التي تنذر بعودة الصراع الى المنطقة من جديد مدعومة من قبل النظام السعودي والذي حصر مخاطره بتلك القادمة من ايران وعرقل اعادة العراق الى محيطه العربي بعد ان كان عاملا فعالا في احتلاله وتدمير سلمه الاجتماعي ومؤسساته حتى اصبح يقف متفرجا على المنطقة العربية معزولا عن وجدانها ومصيرها.

 لقد قامت المجموعة الخليجية بجهد كبير في اخراج العراق من المنظومة العربية في عملية مستبقة تمهد لتحييده وعزله عن محيطه الحضاري والتاريخي في ظل التقسيمات الجديدة الخليجية والمتوسطية. تندثر المنطقة العربية ككيان حضاري ثقافي لتصبح مجموعة احلاف مرتبطة بهيمنة اقتصادية تبحث عن مخارج لازمة اوروبية مستعصية فهل يعي العرب معاني تقسيمهم الى كيانات جغرافية تبني على اساسها احلام استعمار لم ينته وما هي ذخيرتهم الجديدة في مقاومة مشاريع لا تخدم الا مصالح اقلية حاكمة هزتها رياح الثورات العربية.

* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

القدس العربي

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/أيلول/2011 - 19/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م