ليست السفارة بالأمر الهين، فهي من جانب مسؤولية عظمى يتحملّها
السفير ويعبأ بأثقالها وهو يسير نحو مقصد الرسالة وموطئها، وهي من جانب
آخر مسؤولية عظمى لا يُحمّلها صاحبها إلا لمن هو أهل للسفارة، والأهلية
تتطلب الشجاعة والإيمان والإقدام وبذل الغالي والرخيص، وهذه صفات نادرة
لا نجدها إلا عند صاحب الحظ العظيم الذي يضع روحه على كفه في سبيل
إتمام الحجة بنقل الرسالة.
وكان مسلم بن عقيل بن أبي طالب (ع) (3- 60هـ) أهلها وصاحبها
ورائدها والمؤتمن على رسالة النهضة الحسينية التي انطلقت من المدينة
المنورة عبرة مكة المكرمة مروراً بكربلاء المقدسة باتجاه الكوفة
المعظمة عاصمة الدولة الإسلامية سابقاً ولاحقاً، وفيه قال الإمام
الحسين(ع): (إني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن
عقيل).
كلنا يعرف مسلم بن عقيل(ع) السفير الوفي الذي جاء إلى العراق يحمل
بشارات الإنعتاق من ربقة الجبت والطاغوت، ولكن القليل منّا يعرف أنّ
مسلماً هو أوَّل من تسمَّى في عهد الإسلام بهذا الإسم الجميل فكان إسماً
على مسمى معنىً واصطلاحاً، فكان مسلمٌ مسلماً في عقيدته وسلماً في
مسيرته.
كلنا يعرف مسلم بن عقيل(ع) السفير الناصح الذي احتوشته جموع الأعداء
في طرقات الكوفة غدراً ورموه من على قصر الإمارة صبراً، ولكن القليل
منّا يعرف مسلماً الأمير الذي ساهم في نشر الإسلام في الشام وأفريقيا
وكان أمير الجيش عند فتح مدينة بهنسا في صعيد مصر التي تضم اليوم مراقد
الكثير من الصحابة والتابعين وفيها استشهد الفضل وعلي وجعفر أبناء عقيل
بن أبي طالب، وهو القائل في معركة فتح بهنسا من الوافر:
ضناني الحربُ والسهرُ الطويل = وأقلقني التسهدُ والعويلُ
فواثارت جعفر مع علي = وما أبدى جوابُك يا عقيلُ
سأقتلُ بالمهنَّد كُلَّ كلبٍ = عسى في الحرب أن يشفى الغليلُ
كلنا يعرف مسلم بن عقيل(ع) السفير المجاهد الذي حطّ رحاله في الكوفة
في 5 شوال سنة 60 للهجرة وفي 9 ذي الحجة استشهد، ولكن القليل منّا يعرف
أنها لم تكن المرة الأولى التي يمر فيها مسلم على هذه الديار، فقد كان
في معركة صفين عام 37هـ على ميمنة جيش الكوفة إلى جانب الإمامين
الهمامين الحسن والحسين(ع) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وفيها أثخن
القتل في رقاب الفئة الباغية.
كلنا يعرف مسلم بن عقيل(ع) السفير الصابر الذي لم يزده ندرة
المصلّين خلفه بعد أن كانوا بالآلاف إلا إيماناً بالرسالة، ولكن القليل
منّا يعرف مسلماً المسلم الذي آمنت جوارحه وأسلمت لرب العالمين وامتنع
عن إغتيال غريمه عبيد الله بن زياد بن أبيه لأن "الإٍسلام قيد – قيَّدَ-
الفتك" كما قال رسول الله محمد(ص).
كان بإمكان مسلم بن عقيل الطالب (ع) أن يقتل إبن زياد والي يزيد بن
معاوية الأموي في منزل الشهيد هانئ بن عروة المرادي ويغيّر وجه التاريخ
ولم نكن لنألم لواقعة كربلاء طيلة هذه المدة كلها، ولكن التاريخ كان
سيكتب أيضا أن مسلماً قتل غريمه غيلة، وهي ليست من شيمة الرجال وليست
من سنّة الرسول وأهل بيته الكرام، بل أن هذه الواقعة بذاتها رسمت للأمة
المرحومة الطريق القويم وحجزتها عن الغدر ودفعت عنها سبُل الإغتيال
التي لا تليق بالمسلم السوي الذي يرجو شفاعة الرسول(ص) يوم لا ينفع مال
ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو ما يحتاجه العراق اليوم الذي
ينهض منذ عام 2003م من أعباء حقبة مظلمة كان الغدر شعارها والقتل
دثارها، وما يحتاجه كل مجتمع مسلم أو غير مسلم ينتفض على حاكمه الظالم،
في أن يكون السلم شعاره والعفو دثاره ويدفع عنه لباس الغدر والإغتيال
الذي لا يليق إلاّ بطلاب الدنيا.
لا شك أن الحديث عن مسلم بن عقيل بن أبي طالب(ع) هو حديث عن مواقف
شاخصة في حياة البشرية، وهذه المواقف المضيئة عكف المحقق والفقيه
الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي على إسراج موقدها في أكثر من باب من
أبواب دائرة المعارف الحسينية التي تضم ستين باباً في أكثر من ستمائة
مجلد صدر منها حتى اليوم 67 مجلداً، فلمسلم بن عقيل(ع) ذكر طويل في باب
"تاريخ المراقد" وباب "معجم الأنصار الهاشميين" وباب "السيرة الحسينية"
وباب "الناظمين في الحسين" وفي غيرها.
وفي تقديري أن مهرجان السفير الثقافي الأول المنعقد في الكوفة في
الفترة 5-7/شوال/1432هـ (4-6/9/2011م) يشكل لوحة جميلة لها أن تضيء
للإنسانية نقاطاً مضيئة في سيرة هذه الصحابي والتابعي الجليل تكون
معلماً لكل صاحب حق يبحث عن الحرية والسلام، كما أن تدويل المهرجان له
أن يعيد للكوفة دورها التاريخي ولمسجد الكوفة رونقه كرابع مسجد تُشد
إليه الرحال إلى جانب المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد بيت المقدس.
* باحث في دائرة المعارف الحسينية- لندن |