تسعى المجتمعات إلى تنظيم علاقاتها بواسطة قواعد تتعامل مع الأفراد
بشكل متوازن ومتكافئ، وهذا الهاجس منذ نشأتها الأولى وحتى الوقت الحاضر
وسيستمر طالما الحياة باقية، وغايتها في ذلك الحفاظ على كينونتها
وبقائها، وتطورت هذه الوسائل في تحقيق هذا المسعى، فظهرت النظم
السياسية التي عرفها أهل المعرفة في العلوم السياسية (بأنها عبارة عن
مجموعة الحلول اللازمة والمطلوبة لمواجهة المشاكل التي يثيرها قيام
الهيئة الحاكمة وتنظيمها في هيئة اجتماعية).
وبذلك ظهرت الدولة وضمت في طياتها المجتمع وسائر المؤسسات والسلطات
التي تكونها على وفق ما عليه الآن في وجود سلطات ثلاث (التشريعية،
التنفيذية والقضائية) فضلا عن ظهور نظريات جديدة تنادي بوجود سلطات
أخرى مثل الصحافة والمجتمع المدني وكذلك نظرية السلطة الدستورية،
وتمارس هذه السلطات من أفراد المجتمع وبآليات متعددة منها التعيين او
الانتخاب او الاستحواذ (بواسطة الثورات والأعمال المسلحة).
ففي الأنظمة الشمولية ينفرد الحاكم او الجماعة الحاكمة في ممارسة
السلطات وفي ظل الانتخابات نفترض ان ممارسة السلطة بإرادة المجتمع وفي
كلا الحالتين فان القابض على السلطة يهدف الى تحقيق غاياته، فالشمولي
يسعى الى تكريس هيمنته على السلطة والاستحواذ على المقدرات والإرادة
المجتمعية عبر قوانين يشرعها تجسد مفهوم الشمولية والهيمنة، والمرشح
الذي نال رضا وتزكية الجمهور وتقلد منصبه في البرلمان فانه كان قد قدم
لهم برنامجه الانتخابي الذي بين فيه أهم النقاط التي سيعمل على تحقيقها
بواسطة تشريع القوانين وستكون هذه القوانين معبرة عن وجهة نظره او
فلسفته تجاه مشكلة القانون ذاتها ولا اقصد النائب المفرد بل قد يكون
مجموعة من النواب بأي مسمى كان (حزب، جبهة، كتلة ـ تيار...الخ).
ومن خلال دراسة هذه القوانين سنتمكن من معرفة العقيدة السياسية
التي يؤمن بها من شرع القانون، مثلما سنعرف حجم الاستقرار السياسي في
البلد، والاهداف التي يطمح اليها المجتمع السياسي في البلد، فاذا هيمن
حزب او جهة على مقاعد مجلس المزاب وشكل الاغلبية المطلقة سيتمكن من
تمرير افكاره بقوانين يشرعها بأريحية عالية جداً، مثلما حصل في تركيا
عندما سيطر حزب اردوغان على اغلبية مقاعد البرلمان التركي تمكن من
تعديل الدستور بما يحقق تولي اردوغان لرئاسة الحكومة، كما يستطيع
المراقب للعمل التشريعي ان يعرف حجم الكتل والتيارات التي يتكون منها
البرلمان، وعدم توفر الاغلبية لأي جهة سينتج قوانين توافقية تسعى
لتحقيق رضا وقبول المختلفين، الذي لا يدرك.
ومثال ذلك العديد من القوانين التي شرعها مجلس النواب الحالي
والسابق وأعطت نتائج سلبية انعكست على الواقع الاجتماعي والسياسي،
وبينت لنا هذه القوانين هشاشة الاستقرار المزعوم وسطحية الأفكار
المتداولة بين مكونات البرلمان، كما نلاحظ القيمة الإنتاجية للبرلمان
من خلال تعطيل تشريع القوانين، فتنعكس عنه صوراً في الأذهان على انعدام
قدرة العطاء لأعضائه بسب عدم توفر الأغلبية المتوافقة في الأفكار
والرؤى وأساسه سوء إدارة العملية الانتخابية التي منحتنا هذا المزيج
غير المتجانس الدال على إن هذه المكونات لا تمثل النسق العام للمجتمع
وإنما تعبر عن جزئيات صغيرة منه.
كذلك يتمكن المراقب من معرفة سلوك وعقيدة المشرع من خلال القوانين
التي يصدرها، مثلا في القوانين التي صدرت لمنافع ومزايا النواب حصل
إجماع بحضور جميع الأعضاء وبوقت قياسي بينما في القوانين التي تتعلق
بتقليص هذه المزايا أو إلغائها وضعت العراقيل وعطلت أو صدرت بتعمية لا
تمثل حقيقة مطلب الجماهير ويستدل بذلك على غلبة السلوك النفعي الشخصي
والغاية المغنمية في ولوج عالم السياسة على غاية النفع العام وشرف
التكليف القانوني والشرعي ويطلق عليه أهل الفقه الديني (الرياء)
ويحضرني قول علي بن أبي طالب عليه السلام (إن يسير الرياء شرك).
وفي قوانين أخرى نجدها صدرت كردود أفعال لوقائع وأحداث حصلت وهذا
يعطي الانطباع بان المجلس لا يملك القدرة القيادية على المبادرة وخلق
الواقعة، وفي مشاريع قوانين أخرى لم يحصل عليها الإجماع وعطلت بدافع
التسقيط السياسي للجهة التي اقترحتها أو تبنتها دون الالتفات إلى حاجة
المجتمع لهذا القانون خوفا من أن توظف هذه القوانين لمنافع انتخابية
ويمثل هذا انعكاس عن سلوك هدام فردي وفئوي لا يرى إلا مصلحته ويبتعد عن
النشاط البناء في خدمة الصالح العام.
وعند النظر إلى مجمل العملية التشريعية من وجهة نظر سلوكية سترى إن
القوانين قد عبرت لنا عن سلوك القائم على أمر السلطة في البلاد وطبيعة
المناخ السياسي السائد والسابق على مدى الحقبة الزمنية الممتدة منذ
تشكيل الدولة العراقية، وهذا يدعو كل القائمين على العملية التشريعية
في العراق ان يدركوا بأن ما يفعلوه في الخفاء من توافقات سياسية تعكسها
القوانين التي يشرعوها وان الشعب والمجتمع له البصيرة التي تدرك
الخفايا والقدرة على التقييم لما يحدث وسيوازن بين المرشحين في العملية
الانتخابية القادمة إذا ما تخلصت من شوائبها التي رافقتها في العمليات
الانتخابية السابقة وتوفر المناخ المناسب لها. |