أولوية البناء النفسي السليم لإنسان العصر

رؤى من فكر الامام الشيرازي

شبكة النبأ: عندما كانت الحياة بسيطة، وخالية من مظاهر وعناصر وعوامل التعقيد، كانت الامراض النفسية قليلة جدا، ولا تشكل خطرا صحيا، او اجتماعيا، على الفرد والمجتمع، ولكن مع اتساع العالم نفوسا، ومع التطور التقني الهائل والمتسارع، في المجتمع العالمي، نلاحظ بروز مرض يمكن ان نسميه مرض العصر، ألا وهو المرض النفسي وانفصام الشخصية.

الاسباب التي تقود الانسان للوقوع في فخ هذا المرض، لخّصها الامام الراحل آية الله العظمى، اليد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه الثمين الموسوم بـ (الصياغة الجديدة)، إذ تطرق الامام الى جملة من الاسباب والنتائج، التي تتعلق بالامراض النفسية، المتسببة بتعقيد الاوضاع الحياتية للناس، مع اضطراد التقدم التكنلوجي وزيادة نفوس العالم.

يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه المذكور: (من الضروري على الإنسان أن يلاحظ فطرته القويمة الخالية عن الأهواء الداخلية والمضللات الخارجية، فإذا نمت تلك الفطرة نمواً طبيعياً كان الإنسان سليماً وكان المجتمع المحتوي على هؤلاء الأفراد مجتمعاً سليماً).

إذن فالتعارض بين فطرة الانسان، وسعية في مسارات الحياة المختلفة، يشكل خطورة صحية قد تضع الانسان في الهامش، لهذا لابد أن يعرف الانسان نفسه والمسؤولون عنه ايضا، أي ما هي الاهداف والانشطة الفكرية والعملية، التي تلائم فطرته، ويجب تجنب التناقض بين الفطرة والسعي أو العمل.

يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص في كتابه نفسه: (وبعد أن عرفنا الأمر الأول ـ وهو طبيعة الإنسان وفطرته لا الألوان المفروضة عليه من الداخل أو من الخارج ـ يأتي دور الأمر الثاني وهو أن نعرف ماذا يلائم هذه الطبيعة، وماذا لا يلائمها؟ حتى نصنع الوئام بين الطبيعة وبين النفس).

ومن اسباب التصادم بين الفطرة والعمل، او التحرك في محيط اجتماعي او عملي، هي حالة الانعزال التي تشكل خطرا بيّنا على الانسان، فحالة العزلة التي تصيب الانسان، عندما تتقاطع الفطرة مع العمل، حيث تقوده الى الانحراف عن جادة الصواب، سواء في الفكر او العمل، او الانشطة الاجتماعية المختلفة، لهذا يؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال قائلا: (إن الانعزال يزيد الإنسان انكماشاً حول نفسه، كما أن العلاقة المنحرفة تسبب عطباً وخبالاً نقول: إن الإنسان إذا لم يصرف فطرته الخلاقة في البناء، لابدّ وأن يصرف فطرته في الهدم، سواء في هدم نفسه أو هدم مجتمعه، فإن أفراد الإنسان والحيوان والنبات كلها خلاقة: النبات يخلق الأوراق والأزهار والأثمار والأغصان وما أشبه، والحيوان أيضاً يخرج الذرية والبيض والريش والصوف ونحوها، والإنسان أيضاً له الحالة الخلاّقية، لكن الفرق بين خلاقية الإنسان وخلاقية أخويه: أن خلاقية الإنسان خلاقية واعية، بينما خلاقية الحيوان والنبات غريزية كما هو المعروف في علم الحيوان وعلم النبات).

لذا فالخطورة في حالة الانعزال ستكمن في جانب الهدم، الذي يلجأ إليه الانسان المنعزل، بدلا من حالة البناء، التي يحتاجها الفرد والمجتمع معا، يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه بهذا الصدد: (إن الذي يقتل إنساناً أو يهدم داراً فإنه يخلق الدمار أما من يوجد الولد فقد يوجده مستقيماً عن طريق حلال، وقد يوجده منحرفاً عن طريق حرام، وكذلك من يبني الدار قد يبنيها بناية هندسية معتدلة، وقد يبنيها بناية منحرفة غير مطابقة للقوانين والاحتياجات، والإنسان إذا لم يصرف خلاقيته في البناء لا بد وأن يصرفها في الدمار، والدمار يشمل حتى دمار نفسه، فإن الإنسان المنعزل يصرف خلاقيته في الانعزال والاجتناب عن الناس مما يسبب له الدمار).

وهكذا سيتسبب ذلك بحصول حالة مرضية، هي انفصام الذات او الشخصية، فيجد الانسان نفسه ازاء أكثر من شخصية متقاطعة في السلوك والتفكير، اذ يقول الامام الشيرازي في الصياغة الجديدة عن المضاعفات الخطيرة للانفصام: (الواقع أن المجتمع الذي يحتوي على هذه اللبنات الإنسانية ـ المنخلعة عن نفسها بنفسها ـ مجتمع منحرف ومريض مما يسبب أن يكون الإنسان في ضيق من الحياة وضنك من العيش).

وهكذا يكون التقاطع بين الفطرة وتوجهات الانسان، سببا اكيدا في صنع شخصية مريضة، ومهزوزة، وغير قادرة على الابداع، والتشارك مع الآخرين، ومن هؤلاء، ينشأ المجتمع المريض بطبيعة الحال، وهكذا يتسبب ذلك بتعطيل القدرات الانسانية، فيتحقق ضنك العيش للفرد والمجتمع ايضا، اذ يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إنما يبتلى الإنسان في الحياة بضنك العيش لأن داخله شيء وخارجه شيء وهنالك تمزق وانفصام بين الداخل والخارج هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: وجود القوانين الوضعية التي تقيد الإنسان وتجعل الأثقال على كاهله تسبب له ضيقاً وضنكاً، فهنالك ضيق وضنك نفسي، وضيق وضنك جسدي. فسفره محظور، وإقامته محظورة، وعمارته محظورة، وكذلك قُل في سائر حرياته فإنها كلها مكبوتة ومقيدة كما نشاهد في عالم اليوم).

لهذا لابد أن تكون هناك خطط واسعة وشاملة ومبرمجة، لتفادي تنامي الأمراض النفسية في المجتمع، وابسط هذه الاجراءات، أن يتم التوفيق، بين فطرة الإنسان وبين توجهاته وعماله، كما لخصّ ذلك الإمام الشيرازي (رحمه الله) بدقة وبساطة شديدة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/أيلول/2011 - 13/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م