تزامنًا مع ما يجري في ربيع شعوبنا العربية من ثورات شعبية عارمة
وإسقاط أنظمة ديكتاتورية في غاية القمع جثمت على صدر شعبها عشرات
السنين وتساقطت تباعًا كأوراق خريف يابسة -وما زلنا ننتظر سقوط أنظمة
أخرى-، تحل علينا الذكرى السنوية العاشرة لرحيل مفكر إسلامي عظيم ومرجع
ديني كبير طالما دعا ونظَّر وعمل للتغيير وهو الإمام السيد محمد المهدي
الحسيني الشيرازي "المجدد الشيرازي الثاني"(أعلى الله درجاته).
ويجدر بنا في هذه الذكرى أن نحاول الاستفادة من رؤاه التي سطرها في
كتبه الكثيرة حول "التغيير"، وهذا ما أحاول الوصول إليه عبر هذه
المقالات الثلاث المتواضعة والتي ستركز على التغيير "السياسي"، وستكون
الأولى حول أهداف التغيير، والثانية حول الطريق العملي للتغيير،
والثالثة حول ما يجب أن يتحلى به دعاة ومارسوا التغيير من صفات ومهارات.
وتكتسب هذه الرؤى أهمية بالغة كونها –إضافة لدقتها وواقعيتها- صادرة
عن عالم دين جمع بين العمق الفقهي والقيادة الثقافية والممارسة
السياسية، فلا يخفى التأثير الكبير للشخصيات الدينية في عالمنا العربي
والإسلامي. وقبل الشروع في جولتنا أود أن أنوّه أني لن أقف هنا موقف
المحلل والقارئ لهذه الرؤى، وإنما سأكون مجرد ناقل لأبرزها باختيار
دقيق واختصار، فكثير من كتبنا تغض باللآلي والدرر ولكن لا تجد مَن يمد
يده ليأخذ من كنوزها، ومن واجبات المثقف والخطيب المعاصر أن يستخرجا ما
زال صالحًا منها ليضعاه في أيدي الناس –بمختلف الأساليب- ليستنيروا به.
وستتركز جولتنا بشكل أساسي في الكتب الثلاثة الرئيسية التي ضمت
ركائز النظرية التغييرية عند الإمام الشيرازي، وهي: "الصياغة الجديدة
لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام"، "السبيل إلى إنهاض المسلمين"،
و"ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين".
ومما يلفت النظر هو تركيزه (قدس سره) في هذه الكتب بالتأصيل
الإسلامي لرؤى التحرر والتقدم وتبيين سبق الإسلام للغرب والشرق في
تطبيقها بأسلوب يثير الإعجاب ويجذب الألباب عبر سرد مئات الآيات التي
غفل المسلمون عن التأمل فيها وآلاف الشواهد من السنة المطهرة الواضحة
وضوح الشمس في رابعة النهار بما لا يحتاج معه إلى تدقيق كبير ولكن أغلب
المسلمين لم يطلعوا عليها لجهلهم وقلة همتهم، ولن نشير هنا لهذه
الاستدلالات اختصارًا فعلى من أراد الإطلاع الرجوع للمصادر الثلاثة
المذكورة.
والآن نلمع إلى أبرز رؤى التغيير في فكر الإمام الشيرازي الراحل (قدس
سره):
• الغاية الأكبر للتغيير: "التغيير لإنقاذ المسلمين.. من الهوَّة
السحيقة التي سقطوا فيها إلى العزة الشامخة.. والسلوك والارتقاء بالناس
إلى حيث يفنى الفقر والمرض والجهل والقلق إلى غير ذلك"[1] .
• ماذا نغيِّر؟ يجب أن لا يقتصر التغيير على تغيير الأنظمة الحاكمة،
بل يجب أن يكون أوسع من ذلك بكثير بحيث يمارس في كل "حزب أو تشكيل أو
تنظيم أو هيئة أو جماعة أو حكومة أو حتى في عائلة واحدة أو فرد واحد
حيث من الممكن أن يكون الفرد منحطاً وأن يكون متقدماً"[2]
• أبرز الأهداف القضاء على الديكتاتورية والاستبداد: حيث أن من أبرز
عوامل التخلف "الاستبداد.. وإكثار السجون، والتعذيب.. وعدم الاهتمام
بآراء الناس.. وتأليه الفرد، وحجب العقل والفكر، واضطهاد المفكرين
والمبدعين وخنق أصواتهم وكسر أقلامهم، وزرع الإرهاب والخوف.. وضرب
الكفاءات لأن الكفاءة لا تكون إلا بمناقشة الفكر والآراء..
مشكلة بلاد الإسلام بصورة عامة هي الدكتاتورية. إن عبد الناصر مع
أنه كان بخمسين مليون مصري لم يتمكن أن يقاوم إسرائيل حتى أُسبوعاً
واحداً، بينما لبنان ذات الثلاثة ملايين تمكنت أن تقاوم إسرائيل..
فالدكتاتورية كلما كانت أكثر كان التأخر أكثر.. ولذا ينحصر العلاج في
الخروج عن الدكتاتورية بتسليم الناس زمام أمورهم.. والدكتاتور لا
يتنازل عن كرسيه، وإنما اللازم إنزاله، فإن الحق لا يعطى وإنما يؤخذ..
وعلاج الدكتاتورية أن يكون في مقابل الدكتاتور قوة أخرى بحيث تكون تلك
القوة مراقبة للدكتاتور حتى لا ينمو، ومن هنا جاءت فلسفة تعدد الأحزاب
والمنظمات والمؤسسات الدستورية" [3] .
• الانتخابات الحرة وإطلاق الحريات السياسية: "إن كل من يصل إلى
الحكم بلا استفتاء حر من الشعب وبلا شورى منهم ولا انتخاب فهو باطل
وليس من الإسلام في شيء"[4] ، "وإن الحاكم يجب أن يكون باختيار الأمة..
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)..: (الواجب في حكم الله وحكم الإسلام
على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهدياً، أن لا
يعملوا عملاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً..)..
في كثير من بلدان العالم إلى اليوم نص يحرم على المرأة المشاركة في
الانتخابات العامة، بينما قد تقدم أن الإسلام جعل الحق لهن في البيعة
يعني قوله تعالى: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك..)..
وفي قسم من عالم اليوم نرى الحرية السياسية، وذلك عن طريق إبداء
الرأي في وسائل الإعلام وإصدار الصحف والكتب، ونصب محطات التلفزيون
والإذاعة وغيرها. وقد سبق الإسلام في هذه الحرية القوانين الوضعية، فقد
قرر: (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر) و(إرشاد الجاهل) و(تنبيه
الغافل) و(النصيحة لأئمة المسلمين).. فإن الإنسان له حق أن يعارض
الدولة بالمظاهرة والإضراب أو ما أشبه إذا رأى ذلك حقاً..
وفي جملة من القوانين العالمية نجد حق الشعب في إسقاط الحاكم أو
الحكومة، وقد سبق الإسلام القوانين في ذلك بل جعله واجباً شرعياً.. ومن
كتاب رسول الله إلى أهل البحرين عندما ولى عليهم العلاء بن الحضرمي..:
(وأنا أشهد الله تعالى على من وليته شيئاً قليلاً أو كثيراً من أمور
المسلمين فلم يعدل فيهم أنه لا طاعة له وهو خليع مما وليته، وقد برئت
ذمم المسلمين معه من المسلمين)..
أما حق التجمع والاجتماع ونحوهما، وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات
والأحزاب.. كل ذلك مكفول في الإسلام، وقد سبق الإسلام القوانين الوضعية
في ذلك، فقد جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) المهاجرين والأنصار
جماعتين ويستفاد من أحاديث متعددة أنه كلما ضغطت عليه جماعة منهما كان
يلتجئ إلى الجماعة الأخرى"[5] .
• الشورى والمساواة والحرية: "فاللازم قلع جذور الفردية في الأمة
وتعميم الشورى في جميع المجالات، لأنه بدون ذلك يتشتت الأمر.. إذا كان
الأخذ بالزمام فرداً واحداً مهما كان في قمة العدالة والنزاهة قبل
وصوله إلى الحكم"[6] ، والشورى "تظهر الكفاءات، وتقدم الضوابط وتزيل
الروابط والرشاوي والمحسوبية والمنسوبية، وما أشبه"[7] .
ومن أهداف التغيير أيضًا "المساواة أمام القانون وتوفير الحريات بين
الناس.. واحترام العقل والعقلاء والفكر والمنطق، وتذرع كل من الدولة
والأمة بالإقناع عوض ممارسة الضغوط والتهديدات إضافة إلى توسيع نطاق
وعي الأمة وازدياد معرفتها بما يدور في العالم عبر الصحف والمجلات
والنشرات والإذاعات والنوادي والمعاهد وغير ذلك من وسائل الإعلام والبث،
والتعليم والثقافة سواء بالوسائل الأكاديمية منها أو الوسائل الإعلامية..
فإذا أردنا عدم تكون الدكتاتورية في رحم الزمان - لكي لا تصل إلى
الحكم في يوم ما - يجب تقرير المساواة الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية وغيرها بين الأمة، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(الناس سواسية كأسنان المشط).. وليس المهم وضع الدستور القائل بالتساوي..
وإلا فالدستور في كل البلاد الدكتاتورية يقول ذلك.. بل المهم أمران:
الأول: تربية الناس تربية نفسية تريهم أن الحق للآخرين كما أن الحق
لأنفسهم.. الثاني: وجود المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
والثقافية التي تحفظ التوازن" [8] .
• توزيع القدرات والإمكانات: "في الحديث أن للقدرة سكْراً كسكْر
الشراب، والذي يحد منه هو توزيعها وعدم الإستئثار بها لفرد واحد أو
جماعة خاصة.. وتوزيع القدرة على الجهات الكفوءة.. هو رادع خارجي عن
الطغيان، وذلك حتى لا تطغى قدرة على قدرة.. ] فإن[ من طبيعة القدرة
المتمركزة كبت القابليات وإبادة الكفاءات ومنع الناس من أن يفكروا أو
يقولوا..
ولا يقف أمام الدكتاتور في تصرفاته إلا توزيع القدرة، فإن القدرة
إذا وزعت في شكل حركات ومنظمات وكانت مسندة من قبل مؤسسات دستورية
وسياسية لا يتمكن الدكتاتور لا من الوصول إلى الحكم ولا من البقاء في
الحكم لو فرض الوصول إليه، لأن المؤسسات الدستورية والقوى المتقابلة
والمتنافسة، والمنظمات المتعددة، ليست محلاً لوجود الدكتاتور لا لنموه
ولا لبقائه [9] .
• السلام: "من الضروري لممارسي التغيير أن يجعلوا في مقدمة أهدافهم
مسالمة الجميع، وأن يعيش الكل بسلام، فكما أن للإنسان نفسه الحق في أن
يعيش بكرامة وحرية، ورفاه وسلام، عليه أن يترك الآخرين يعيشون كذلك كما
قال علي (عليه السلام): (أحبب لغيرك ما تحبه لنفسك)" [10] ."إنّ
المعاملة السلمية تجاه الصديق والعدو هي من الأسس الحيوية التي يلزم أن
يقوم عليها النضال.. والسلم في أول أمره مُرٌّ وصعب، ويحتاج إلى ضبط
الأعصاب وإلى عفو وإغماض.. ]ويجب أن يكون[ السلام هو القاعدة العامة،
وإنما يكون العنف ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها"[11] .
• حرية العقيدة والممارسات الدينية: "وقد سبق الإسلام إلى ذلك في
القرآن وسيرة النبي والأئمة (عليهم السلام) فقد قال سبحانه: (لا إكراه
في الدِّين قد تبين الرشد من الغي)، وقال تعالى: (لكم دينكم ولي دين)،
وقال جلَّ اسمه: (فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمصيطر)، وقال جلَّ
اسمه: (وما أنت عليهم بجبَّار)، وقال تبارك ذكره: (وأمرت لأعدل بينكم
الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله
يجمع بيننا وإليه المصير). والنبي (صلى الله عليه وآله) لم يجبر أحداً
على تغيير عقيدته، كما أن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يجبر
أحداً على ذلك" [12] .
....................................
[1] ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين، مقدمة الكتاب (استخدمت
النسخة الإلكترونية لذلك يتعذَّر ذكر رقم الصفحة).
[2] المصدر السابق.
[3] المصدر السابق، المقدمة، والفصل الثالث، عنوان "تجنب
الطفولة السياسية"، والفصل الخامس، عنواني "إسقاط الدكتاتور"، و"تدرّج
الديكتاتورية".
[4] المصدر السابق، الفصل الأول، عنوان "من أوليات
الفهم السياسي".
[5] الصياغة الجديدة، الفصل الثالث، عنواني "تعيين
الحاكم بانتخاب الأمة"، و"سبق الإسلام وامتيازه".
[6] ممارسة التغيير، الفصل الثالث، عنوان
"الفرديَّة".
[7] الصياغة الجديدة، الفصل السادس، عنوان "الشورى".
[8] ممارسة التغيير، المقدمة، والفصل الخامس، عنوان
"تقرير المساواة الشاملة" وما بعده.
[9] المصدر السابق، الفصل الأول، عنوان "المشكلات
وليدة الإنسان"، والفصل الثالث، عنوان "لا للطغيان"، والفصل الخامس،
عنواني " الدكتاتورية.. هي سبب تأخر المسلمين"، و"ما الذي يصدُّ
الديكتاتور؟".
[10] المصدر السابق، الفصل الثالث، عنوان
"السَّلام".
[11] السَّبيل إلى إنهاض المسلمين، ص131،132،137.
[12] الصياغة الجديدة، الفصل الثالث، عنوان "سبق
الإسلام وامتيازه". |