التفاهة واللا معنى.. عن برنامج (بله بله) حياتنا وتفاهات أخرى

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: قل.. فعل أمر يطلب فيه المتكلم ممن يخاطبه إن يقول شيئا.. اي ان يتكلم.. الكلام هبة الهية وامتياز للإنسان على جميع المخلوقات.. والكلام في تصنيف المراتب على نوعية المعادن الثمينة من (فضة) بينما السكوت من ذهب.. لا توجد معادن أخرى بين هذين المعدنين.

ولا ادري السر في هذا التصنيف مع وجود كم هائل من كلام يشبه الحديد او القصدير او غيرها من معادن رخيصة.

على هامش فعل (قل) نشأت عدة عبارات تنوع في الطلب الآمر.. مثلا:

قل لي كيف تفكر اقول لك من انت.

قل لي ماذا تاكل اقول لك من انت.

قل لي ماذا تقرأ اقول لك من انت.

قل لي من انا اقول لك من انت.

وغيرها الكثير من العبارات التي تستتبع الفعل (قل).

على تلك الشاكلة يمكن اكتشاف الكثير من الامور الدالة والكاشفة عن نوعية حياتنا التي نحياها.. يمكن مثلا ان أصوغ فعل (قل) على الشكل التالي:

قل لي ماذا تشاهد اقول لك من انت.

قل لي لماذا تضحك اقول لك من انت.

قل لي هل تشاهد مسلسلات قناة البغدادية اقول لك من انت.

.... مسلسلات الشرقية اقول لك من انت.

قل لي هل تشاهد برنامج بل بلة من على قناة mcb اقول لك من انت.

قل لي هل تجلس في مقهى حديث من المقاهي الموجودة في العراق بكثرة اقول لك من انت.

حياة الانسان تعاش مرة واحدة مهما استطال به العمر وكان رصيده من السنوات كبيرا.

منهم من تكون تلك السنوات زائدة عليه ومنهم من تكون قليلة لاتستوعب حركته ومنهم من يحاول ان يوازن بين الأمرين.

هي حياة واحدة ترى كيف يمكن ان يعيشها الواحد منا؟

في الطفولة، خزانة الأسرار الكبرى ومفاتيح المعرفة الاولى هناك تبديد لتلك الحياة الا انه تبديد يحمل بصمة الاكتشاف والذهول والتساؤل امام التجارب الاولى.

وحياة الطفل لا يستطيع تبديدها دون مساعدة من اهله المحيطين به ولا يفرضون عليه ايقاعا معينا في تبديد حياته الا حين يتعارض ذلك مع اوقات راحتهم واسترخائهم.

انه ملك حياته التي يعيشها..في المراهقة نحاول اعادة اكتشاف العالم المحيط بنا بعد ان طورنا ادوات الاكتشاف منذ مرحلة الطفولة وامتلكنا ادوات جديدة.

نتذكر مغامراتنا الاولى ولا يمكننا نسيانها.. هذا التذكر يصطبغ بصبغتين هما الفرح وهو مثلوم، والحزن المقيم فينا دائما.. نتعلم اشياء كثيرة في سنوات المراهقة منها ماننميه ويرافقنا طيلة عمرنا، ومنه مانتخلى عنه ومنه ما يستبد بسنواتنا اللاحقة.. التفاهة جزء من هذا الاستبداد الذي يبدد اعمارنا حتى مرحلة الشباب والكهولة.

تترافق التفاهة مع اللامعنى في كل ما نقوم به وما نؤديه.. في كلامنا وفي سلوكنا وفي تصوراتنا.

اذكر في سنوات مراهقتنا ويذكر غيري كذلك ممن رهقوا في السبعبنات ان التلفزيون كان في فترة بث واحدة وهي الفترة المسائية..ثم في احدى السنوات بدأ البث الصباحي مع صعود نجم السيد النائب صدام حسين.

لم يكن التلفزيون هو نافذتنا الوحيدة التي نطل منها على العالم او تحتك من خلالها مع الاخرين.. كانت هناك الصحف والكتب والمجلات وكانت هناك كرة القدم في الازقة والشوارع والساحات والحدائق.

لم يكن احدنا الا وله هواية معينة.. قلة من كانت مراهقتهم تبددها ساعات من الوقوف او الجلوس على الارصفة عند مفترقات الازفة او عند الدكاكين على قلتها..هذه القلة كانت تمثل في تلك السنوات التفاهة واللامعنى.

في سنوات لاحقة اخذت مساحة التفاهة واللامعنى التي تبدد اعمارنا تتسع وتتسع.. تراجع الكتاب وتراجعت عادة القراءة، تراجع دور الاباء في التربية، فهم اما في جبهات القتال او فارين منها او قتلى فوقها.

اصبحنا نتعلم من جهاز التلفزيون الذي يحتل اوقاته القائد الضرورة واصبحت مادة (صور من المعركة) باوقات بثها هي المقبلات لوجبة العشاء.. افلت القليل من دوامة التفاهة والمعنى وانساق الملايين خلفها تقود خطاهم.

سنوات التسعينات ليست اقل ضررا ففيه تآكلت الطبقة الوسطى العراقية واندحرت تحت وطأة الحاجة للبقاء على الحياة في جريها خلف لقمة العيش وظهرت على شاشة التلفزيون المسلسلات المكسيكية المدبلجة بأزمانها الماراثونية.. كل شيء تراجع، الثقافة والاجتماع وبرزت سلوكيات جديدة بعد تراكمات مفاعيل الحروب والحصار.. بعد التغيير الذي طرأ على الساحة السياسية العراقية في العام 2003 تغير المشهد التلفزيوني العراقي مثلما تغيرت مشاهد اخرى.

في رمضان من كل عام تتسابق الفضائيات على اصابة المشاهد بحالة من التخمة الفنية بين وجبتي الفطور والسحور حيث تسترخي الاجساد وتتبلد العقول بغعل كميات الطعام والشراب التي يتناولها الصائم بين الفترتين.. سلطات، اطباق رئيسية، عصائر ومشروبات غازية، حلويات وفواكه.

من السهل على الاجساد المسترخية من الشبع والمتخمة بالطعام والشراب اضحاكها.. ومن السهل ايضا استدراجها الى اي فخ تحمله المادة الفنية.. لم اتابع في شهر رمضان سوى مادة واحدة يوميا بحكم الاضطرار العائلي وهي مسلسل (وكر الذيب) التي قدمتها شاشة البغدادية.. انه اضطرار زمن الافطار الذي يترافق مع عرض المسلسل..على المستوى الفني والمعالجة المسلسل في الكثير من الهنات والاخطاء والخطايا.

صورة الانسان الجنوبي التي قدمها المسلسل صورة نمطية تحفل بالكثير من السخرية منه وجعله مصدر اضحاك للمشاهد.. اضافة الى مشاهد الرقص الطويلة ومشاهد زائدة اخرى حذفها لا يخل بالعمل.. الملفت في الحلقة التاسعة والعشرين ظهور شخصية الافندي الوحيدة التي نسبها المسلسل الى المنطقة الغربية تحديدا.. هي رسالة سياسية وثقافية بامتياز.. المسلسل فيه كثير من التفاهة واللا معنى.

المادة الثانية التي شاهدتها وكنت عند الحلاق ليلتها تحضيرا لرأسي الذي سأقابل به الناس.. كانت المادة المعروضة هي برنامج (بل بلة) الذي قدم من على شاشة mcb وهو برنامج كاميرا خفية.. كان مجموعة من الشباب يتابعون البرنامج عند الحلاق بانتظار دورهم.. كانوا معجبين بهذا البرنامج الذي يستجدي كمية كبيرة من المهاترات والسباب والشتائم.. تتطور في احيان كثيرة الى استخدام الايدي المجردة او الكراسي في الضرب.. مجموعة الشباب معجبة بهذه الضحالة وهذه التفاهة التي تقدم أمامهم وهم يمتدحون مقدم البرنامج ويكيلون المديح اليه ولقدراته الاعلامية الفذة.

وحدث ولا حرج عن كثير من البرامج والمسلسلات التي لا تقدم شيئا سوى التفاهة واللامعنى والتهريج على كل شيء وهو ما ورثه الفن العراقي من مسرح التسعينات..

(بل بلة) و (بس بس.. ميو ميو) وغيرها من مواد تلفزيونية وغنائية تبدد اعمار شبابنا بعد ما بددت حروب وحصارات ومنافي حياتنا طيلة عقود.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/أيلول/2011 - 6/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م