استشراف سيسيولوجي وانتليجينيسي بسيط لمجريات الفساد المالي
والاداري والاخلاقي في العراق يرسخ الاعتقاد باحتمال شطب هذا العراق من
خارطة العالم في غضون مدد وجيزة بينما الغالبية العظمى من تصرفات
أبنائه كشعب وحكومة لا تحفل بشيء سوى التمحور حول مطالب الذات الآنية
والاشتغال عن القضايا الكبرى بجزئيات الحياة البسيطة.
أكثر من عامل سيسيولوجي وانتليجينيسي كان قد أوصل عموم العراقيين
إلى ما هم عليه من يأس بالاصلاح وغلواء في الأنانية واغتراب عن المحيط
الذي ينتمون إليه بل البلد الذي يعيشون فيه.
ففضلا عن رواسب العهود السياسية السابقة وما حملته بين طياتها من
امتهان لكرامة الفرد العراقي هناك العهد السياسي الجديد الذي تأمل فيه
عامة الناس خيرا فإذا بهم يرون فيه كل شيء ما عدا هذا الخير الذي
انتظروه طويلا.
إذ ان أنانية الساسة الجدد وانغماسهم في ظاهرة الفساد كانت قد فاقت
أسلافهم بمسافات هائلة، وبحيث لم تدع مجالا للتفاؤل بقدوم رخاء اجتماعي
تعم بركاته سائر الطبقات الاجتماعية في يوم من الأيام.
هناك من يعول على النخبة الواعية من العراقيين في تضييق دوائر البؤس
والتعاسة العامة، والتصدي للفاسدين والمفسدين، لكن نظرة سريعة على حال
هذه النخبة كفيلة بازدراء هذا الحل والانتقاص من جدواه وأثره. إذ ان
الغالبية من حملة الفكر والفن والصحافة لدينا منهمكون مع الأسف الشديد
بتضخيم عقدهم النفسية والاشتغال بتفاهاتهم الخاصة عن أي شيء آخر، وليس
فيما يسمونه بمنجزهم الإبداعي أو الثقافي أو الإعلامي أكثر من اجترارات
لتعابير من قبيل المتن والهامش والثيمة والموضوعة، والانتلجينيسيا
والسيسولوجيا، وما الى ذلك من مصطلحات وافدة تثير الاشمئزاز فضلا عن
مواهب بعضهم في الاستخذاء لكل صاحب جاه وسطوة.
هناك قلة من مثقفينا من يتحدث بلغة واقعية ويتصدى لقضايا الفساد
العام بشجاعة على مستويات الفكر والفن والصحافة لكن حتى هؤلاء (الشجعان
) اخذوا بالذوبان تدريجيا، وهم معذورون في غالبيتهم العظمى اذ لا يمكن
لإنسان مهما بلغت شجاعته أن يكون ندا لجيش من اللصوص.
بعبارة أخرى فان النخبة المثقفة والواعية من العراقيين أخذت تتخلى
باستسلام مهين عن وظيفتها التنويرية الأساسية وراحت تتقاذفها رياح
البؤس العام لتلقي في جزء كبير منها داخل قوقعة الاعتياش على إفرازات
البؤس الآسنة حالها من حال اشد طبقات المجتمع رزوحا تحت نير الجهل
والانحطاط المعرفي، ما يعطي انطباعا بان العراقيين لن يتسنى لهم
التفاؤل بغد مشرق قبل انقراض جيل المثقفين النحس هذا واستبداله بآخر
اقل ولعا بالسيسيولوجيا والانتليجينيسا وأكثر زهدا بفتات المتنفذين.
كنت اتجول في الصحن الداخلي لإحدى العتبات المقدسة حين أبصرت صحفيا
ملمعا، وهو يتأبط شيئا. لم يكن هذا الشيء مصحفا ولا كتاب أدعية أو كتاب
زيارات. فقلت في نفسي لعل هذا الشيء المحمول عبارة عن منجز إبداعي
يتحدث عن السيسيولوجيا والانتلجينيسا. لكنني كنت متوهما جدا حتى في هذه
الفرضية الأخيرة فقد كان ذلك الشيء المحمول مجرد معاملة رسمية، وعندما
استفهمت منه عن سر حمله لهذه المعاملة في هذا المكان المقدس أجابني على
الفور قائلا : المحافظ جاي لهنانه اريد احلفه بالامام حتى يوقعلي عليهه
عوفني يمعود! |