شبكة النبأ: رحل صدام لكن اليات عمل
زمانه مازالت موجودة في عمل المؤسسات الحكومية، هذا هو الوصف الذي تتهم
في البيروقراطية العراقية بتعطيل عملية التغيير والتحول، بل انها تساهم
في تحويل النظام الاداري الى مركزية شديدة وجامدة وفاسدة مبقية على ارث
النظام السابق بقوة.
فبعد محاولات مستميتة استمرت اكثر من عام كان الشغل الشاغل لرجل
الاعمال العراقي ابو ديما هو الحصول على مستحقاته من بناء مبنى حكومي
اقيم في وسط بغداد.
وفي نهاية المطاف قرر الرضوخ للامر الواقع والاعتراف بهزيمته وترك
البلاد بحثا عن سوق اخرى هربا من بيروقراطية كادت امواجها تغرقه وتكون
سببا في انهاء حياته المهنية.
وبدلا من السعي للفوز بعقد جديد في بلد دمرت أركانه الحروب فان صبر
ابو ديما نفد وطفح به الكيل وهو يرى ان اعمال دائرة المحاسبة للمؤسسة
التي تعاقد معها قد توقفت لاكثر من شهر لا لشيء سوى ان مدير هذه
الدائرة قد سافر يتمتع باجازته خارج البلاد. وقال ابو ديما "هذا
الروتين القاتل سيقتلنا."
واضاف "عندنا مشكلة بالقوانين. ومشكلة اخرى بالتعليمات التي تصدر
لاحقا لتنفيذ القوانين. اما المشكلة الكبرى فهي بالموظفين الذين ينفذون
القوانين.. مصرون على اتباع اسلوب عمل قديم.. عفا عليه الزمن." بحسب
رويترز.
وانتقد مسؤولون حكوميون ورجال اعمال اليات العمل التي تنتهجها
مؤسسات الدولة حاليا وهي اليات وصفوها بانها لا تختلف كثيرا عن تلك
التي كانت تتبع في فترة حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والتي
تتسم بالمركزية الشديدة.
وقال هؤلاء ان الحكومة الحالية ومؤسساتها تفضل أن ينتهج موظفوها
اليات عمل فيها الكثير من البيروقراطية عن تلك التي تقترب كثيرا من
الاسلوب الغربي المنفتح والذي لا يتقيد كثيرا بالتعليمات او بالروتين
اليومي.
ويبدو ان حمى الرغبة في التحرر من القيود التقليدية التي تفرضها
انظمة الحكم الشديدة المركزية والنزوع الى اتباع اليات متحررة للاندماج
في اقتصاديات الدول المتقدمة قد طفت على السطح مؤخرا في البلاد خاصة
بعد قيام السلطات العراقية بعزل رئيس المصرف العراقي للتجارة حسين
الازري.
واضطر الازري للهرب خارج البلاد بسبب اتهامات السلطات له بارتكاب
مخالفات في المصرف بعد ان حصل المصرف على الكثير من الثناء من جانب
مستثمرين اجانب.
ويعتقد عدد من المتخصصين في شؤون المال ان ملابسات ما حدث في المصرف
العراقي للتجارة وهو مؤسسة حكومية يعكس في حقيقته طبيعة الاختلاف بين
التقيد بالبيروقراطية المتزمتة داخل المؤسسات الحكومية وبين نزعة
التحرر من هذه الاليات التي تنشدها الشركات العالمية وهي ترنو الى
العراق وتسعى للحصول على موطيء قدم في عملية اعادة بناء غالبية قطاعاته
المتهالكة بسبب سنوات الحصار والحروب المتعاقبة التي مرت بها البلاد.
وقالت سلام سميسم وهي خبيرة اقتصادية عراقية "مشكلتنا في العراق
اننا مازلنا نعاني من البيروقراطية ومن الهيكلية التقليدية السائدة
الرافضة للتغيير." بحسب رويترز.
كانت الحكومة العراقية قد اتهمت الازري خلال فترة ادارته للمصرف
والتي بدأت في شهر يوليو تموز 2003 حتى يونيو حزيران من العام الحالي
بارتكابه مخالفات من خلال موافقته على تقديم قروض توصف بانها رديئة
ويتعذر استرجاعها وانها كلفت البنك ملايين الدولارات. ونفى الازري هذه
الاتهامات ووصفها بانها اتهامات غير حقيقية ومختلقة.
ويشكك البعض ممن كانوا على دراية بما كان يجرى خلف الستار فيما
يتعلق بالمصرف في الاتهامات التي ساقتها السلطات ضد الازري. ويعتقد
هؤلاء ان الازري لم يرتكب مخالفات يمكن اعتبارها فسادا اداريا بل كان
ضحية لنزعته الاستقلالية التي لم ترق للسلطات لكنها ساهمت في كتابة
فصول عديدة من قصة نجاح المصرف الذي يقول المقربون ان أصوله تضاعفت لما
يقرب من خمسة أمثالها خلال سنوات ادارة الازري للبنك.
وقال مسؤول مصرفي حكومي بارز لرويترز مشترطا عدم الكشف عن اسمه "مشكلة
الازري هي عقليته الغربية والنمط الغربي الذي كان يدير به البنك والتي
لا تتقيد بالقوانين والتعليمات."
واضاف "وهذا لم يرق للمسؤولين الحكوميين وحتى لرئيس الحكومة الذين
كانوا يريدون من الازري ان يدير البنك بطريقتهم... بعقلية شرقية
وبمقاسات عراقية."
وقال المسؤول ان السلطات لم تنظر الى النجاح الذي حققه الازري بل
كانت تنظر الى الاخفاقات التي ارتكبها "والتي لا تعني شيئا قياسا
لنجاحاته".
وكان العراق يصنف قبل العام 2003 بانه من اكثر الانظمة تشددا
واتباعا للمركزية في العالم.
وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003 والذي
ادى الى اسقاط نظام الحكم السياسي فيه تعهدت واشنطن ببناء نظام سياسي
واقتصادي في العراق يكون نموذجا لدول المنطقة.
ورغم مرور اكثر من ثماني سنوات على الغزو فان الكثير من المسؤولين
العراقيين مازالوا مترددين في اظهار روح المبادرة مفضلين الركون الى
الاليات القديمة حماية لانفسهم من عقوبات السلطة التي لا يعرف احد
منتهاها.
ويحتاج العراق الى مساعدة الشركات العاليمة لاعادة بناء اقتصاده
الذي يعاني من تدمير كبير لبنيته التحتية.
ورغم كل تلك المعوقات فان العديد من شركات النفط العالمية لم تأل
جهدا في سعيها القدوم الى العراق للاستثمار في قطاع النفط المتهالك حيث
يملك العراق ثالث اكبر احتياطي للنفط في العالم. لكن عددا كبيرا اخر من
الشركات في القطاعات الاخرى مازال ينظر بقلق تجاه العديد من المعوقات
مثل الامن والبيروقراطية الحكومية وعدم توفر بيئة ملائمة من التشريعات.
وبعيدا عن قطاع النفط فان القطاع المصرفي العراقي يعاني من هيمنة
مصرفين كبيريين هما الرافدين والرشيد. وبسبب المركزية المتبعة فان
السلطات تفرض على مؤسسات الدولة التعامل حصريا مع المصارف الحكومية.
وهذه اجراءات تضر كثيرا بالقطاع المصرفي الخاص في العراق.
وقال مستثمر اجنبي يعمل في العراق طلب عدم ذكر اسمه لحساسية الموقف
"مثل هذه الاشياء عادة ما تحدث لدول شهدت تغييرات جذرية في نظام
حكمها."
واضاف "لكني اعتقد ان التغيير سيكون مسالة وقت ليس الا. مع استمرار
قدوم الشركات الاجنبية فان العديد من هذه المسائل سيتغير."
ويشكو رجال اعمال من التاخير في انجاز الاعمال اليومية الروتينية في
المؤسسات الحكومية بسبب ثقافة البيروقراطية المتأصلة لدى الموظفين
الحكوميين. وفي عالم العمل الخاص فان التأخير يعني خسارة للاموال.
ويشكو مستشمر اجنبي يعمل في شركة امريكية عاملة في العراق من
بيروقراطية المؤسسات الحكومية وقال ان اتباع انماط قديمة في التعاملات
اليومية يصل الى حد انه يندر رؤية مسؤول يستعمل الانترنت والرسائل
المرسلة بالبريد الالكتروني لانجاز المعاملات.
وساق هذا المستثمر مثالا وقال ان عملية تسجيل شركة في دبي تستغرق
اسبوعا واحدا لكنها تستغرق ثمانية اشهر في العراق. وقال ان احد اسباب
هذا التأخير هو ان غالبية المؤسسات الحكومية العراقية مازالت تعتمد حتى
الان على التعاملات الورقية في انجاز الاعمال وهذا يتسبب عادة في كثير
من التأخير وبالذات عندما تفقد بعض الوثائق.
وقال "هم (الموظفون) يحاولون لكن الدولة تفتقر الى خبرة موظفين
محترفين." واضاف "صدام رحل لكن اليات عمل زمانه مازالت موجودة في عمل
المؤسسات الحكومية."
وبسبب ما حدث للازري فان العديد ممن هم على شاكلته يعتقدون ان
انتهاج طرق عمل تقترب من النمط الغربي في العراق ونبذ الاليات
البيروقراطية قد تتسبب في فقدانهم لمناصبهم.
وقال رئيس بنك خاص في بغداد اشترط عدم ذكر اسمه "اتمنى ان اتصرف
بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها الازري في مصرف التجارة العراقي لكني
لا استطيع. هناك قوانين وانظمة لا يمكن تجاوزها او التغاضي عنها."
واضاف "لكن تعرف... هذه القوانين اصبحت قديمة لم تعد قادرة على
المواكبة ويجب ان تتغير." |