
شبكة النبأ: يفهم كثيرون أن
الديمقراطية تعني غياب الانضباط، ويفهم آخرون أنها نوع من الانفلات
الذي يتيح للفرد فضاءات لا محدودة من السلوك أو الاقوال والافكار غير
المنضبطة، فحين يحاول أحدهم أن يشذ عن الآخرين بقول او فعل ما، سرعان
ما يبرر ذلك بالاجواء الديمقراطية، التي تتيح له –كما يظن- حرية القول
والفعل من دون التنبّه الى الحدود الاخرى، ونعني بها حقوق الآخر،
فالديمقراطية التي تعني التحرر بمعناه الاوسع، ترفض رفضا قاطعا التجاوز
على حريات وحقوق وأفكار الآخرين.
كما أن الديمقراطية لا تعني غياب الانضباط او ضعفه، فحين ينتمي
أحدهم لكتلة أو حزب ما، ويصبح عضوا في هذا الحزب، لابد أن تكون هناك
ضوابط من بينها (النظام الداخلي للحزب او الكتلة) حيث تتحدد صلاحيات
وواجبات رئيس الحزب ومساعديه، والاعضاء العاديين الذين ينتمون إليه،
وبهذا فإن الديمقراطية لا تعني غياب الانضباط في الحزب او الكتلة
الفلانية، ولابد أن تكون القرارات المتخذة في شأن سياسي للحزب، محترمة
من لدن جميع الاعضاء، فلا يجوز لاعضاء في الحزب او الكتلة أن يتنصلوا
من دعم قرارات سياسية تتخذها الكتلة او الحزب، والسبب بسيط، أن رئاسة
الحزب او الكتلة يُفترض أن تكون مزكاة وأنها محترمة من لدن جميع
أعضائها بالاضافة الى حتمية مناقشة القرارات قبل اتخاذها، أما اذا ظهر
العكس، فإن حالة الانفلات وعدم الانضباط، ناهيك عن عدم الانسجام
والتناغم، ستكون هي التفسير الوحيد لمثل هذه الظاهرة.
وأعني بهذه الظاهرة، حالة عدم الانضباط في السلوك والتصريحات لأعضاء
الحزب او الكتلة السياسية، او بعض نواب البرلمان، فترى رئيس الكتلة يقر
بكذا وكذا، ويعلن ذلك على الملأ، ثم يأتي بعده عضو او اعضاء من حزبه او
كتلته، ليعلنوا عبر وسائل الاعلام، عدم الاعتراف بالقرارات او الخطوات
التي أعلنها رئيسهم !!.
إن مثل هذا التضارب والتقاطع يثير الاستغراب حقا، ولا يمكن
للديمقراطية وحرية الآراء أن تبرر نسف القرارات التي تتخذها رئاسة
الحزب الفلاني، بحجة أن الديمقراطية تتيح ذلك، ويمكن أن نصف
الديمقراطية في هذه الحالة، انها نوع من (الانضباط الحر) الذي يرفض
الانفلات والآراء الفردية التي لا تمثل ولا تتفق مع القيادة ورؤيتها،
خاصة اذا كانت القرارات المتخذة قد نوقشت بين اعضاء الحزب، او الكتلة
وهي كذلك حتما، لانه ليس من المعقول لرئيس الحزب او الكتلة أن يتخذ
قرارا مهما وحساسا، من دون الرجوع الى اعضاء حزبه او كتلته، ومناقشة
ذلك القرار قبل اعلانه أو الموافقة به، وإذا حدث مثل هذا الاتفاق
والمناقشة المسبقة حول قرار ما، فليس من المعقول ولا المقبول، أن يخرج
عضو او مجموعة أعضاء ليعلنوا رفضهم لذلك القرار.
إن الديمقراطية لا تعني الخروج على ما هو متفق عليه، ولا يجوز اعلان
الاتفاق في المناقشة الداخلية لقرار ما، ثم إعلان الرفض للقرار نفسه،
عندما يُعلن على الملأ، فهذا السلوك يمثل نوعا من اللعب على الحبال،
ناهيك عن كونه مثيرا للاضطرابات والتجاذبات السياسية، التي تضر
بالديمقراطية وتضر بالشعب في آن، بل لا نخطئ حين نقول أن الشعب هو
المتضرر الاكبر من هذه الافعال غير المدروسة، حيث تُثار المماحكات بين
هذا الحزب او ذاك، وبين هذه الكتلة او تلك، وتنشأ التجاذبات والتصريحات
(النارية) أحيانا، في الوقت الذي يتطلع الشعب لاتخاذ القرارات الفعلية
التي ترفّه عنه، وترفع من سقف الخدمات المقدمة له، والقدرة الشرائية
وغير ذلك مما تتطلبه الحياة الكريمة.
لقد حدث قبل ايام قريبة أن اجتمع قادة الكتل السياسية في العراق،
وقد اتخذوا هؤلاء القادة جملة من القرارات التي من شأنها تخفيف حدة
الصراع، وبث اجواء الثقة بين الجميع وتجسير الخلافات بنوع من الثقة
المطلوبة، وقد تابع الشارع العراقي ذلك بترقب شديد مشوب بالامل، لكننا
(تحت أثر الفهم الخاطئ للديمقراطية) رأينا وسمعنا أن اعضاءا ونوابا
رفضوا بعض ما اتفق عليه قادتهم واعلنوا ذلك جهارا، وهم بهذه الخطوة
إنما يثيرون الاستغراب، فكيف يعلن رئيس الكتلة موافقته على القرار
الفلاني، فيما يعلن الاعضاء رفضهم لتلك الموافقة، هنا تشيع الفوضى
وتبرز حالة من الانفلات تؤكد غياب او ضعف الانظمة الداخلية التي تحدد
مثل هذه التقاطعات.
مطلوب أن نفهم الديمقراطية وما تعنيه جيدا، ومطلوب أن نقر بالانظمة
الداخلية، ونفهمها ونطبقها جيدا، حتى نتخلص من حالات التقاطع والتماحك
وإثارة المشكلات، التي تضر بالسياسيين وبالشعب على حد سواء. |