انحرف النقاش الاعلامي حول موضوع مسودة النظام الجزائي لجرائم
الارهاب وتمويله الذي تسرب الى منظمة العفو الدولية عن التعاطي مع
معضلة مهمة وهي الاعتقاد بان قضية المساجين السعوديين او المعارضين
السياسيين يخضعون لقانون ما هو خير النقاش والتداول قبل تفعيله كاطار
حقوقي على اساسه يتم البت بقضايا عالقة وشائكة تماما كما يحصل في الدول
والتي تقوم حكوماتها بصياغة مسودات يتم عرضها على مجالس انتخابية
تمثيلية منتخبة تستطيع ان تعطل مشاريع الحكومات الحاكمة.
من المعروف ان السعودية تتعاطى مع صياغة القوانين عن طريق المراسيم
الملكية والتي تصدر فجأة وتتحول الى قوانين تفعل في البلاد ويخضع لها
العباد. ولم يعرف عن مجلس الشورى السعودي المعين من قبل الملك ان عطل
مشروعا وكل صلاحياته تتعلق بمناقشات وحوارات تخص القضايا الحياتية وليس
السيادية حيث يبقى ذلك من صلاحيات بضعة اشخاص يتصدرون القرار السياسي.
لذلك من المضلل ان نعتقد ان القوانين المسربة تخضع لآلية مؤسساتية او
دستورية قبل ان تصبح ملزمة حيث انها دوما تكون مصاغة من قبل وزارات
معنية بهذا الشأن او ذلك وليست خاضعة لارادة شعبية عن طريق ممثليها.
ولهذا السبب تحول النقاش حول تسريب نسخة القانون الجزائي الى ملحمة
اعلامية تدافع فيها منظمة العفو الدولية عن تحفظاتها القانونية على
نسخة ربما تستعمل في المستقبل ليس فقط ضد قضايا الارهاب بل ايضا
الاشخاص والجمعيات التي تعترض على الارادة الملكية وتشكك في رؤيتها
السياسية وتعاطيها مع قضايا الساعة. وفي الجانب الآخر يصطف المدافعون
على النظام يبررون اصداره في هذه الحقبة التاريخية الحاسمة فيبحثون عن
الثغرات الامنية والمخاطر المحيطة بالمملكة خاصة من اعدائها المتربصين
بأمنها ويجدون في مسودة القانون ضمانا امنيا يحفظ السلم الداخلي خاصة
من تهديدات القاعدة المزعومة.
وبين هذا الفريق وذاك غابت الحقيقة المرة وهي ان دخول الناشط
السياسي او المنتقد لسياسات الدولة الى السجن لا تحسمه القوانين
الجزائية بل اهواء الامراء وحتى هذه اللحظة يظل القانون الجزائي قاصرا
على تجاوز ارادة هؤلاء والدليل على ذلك المئات من المساجين السياسيين
الذين توقفهم السلطات السعودية على خلفية بسيطة كقصيدة شعرية تنتقد هذا
المسؤول او ذاك او شخصية ناشطة تعلن عزمها على التظاهر لنصرة قضية ما.
وفي السنوات الماضية لم تقتصر حالات السجن على المنتقدين للشخصيات
الكبيرة بل ان بعض وزراء الدولة يعتبرون خارج حدود النقد والتساؤل مما
ادى الى تقليص مساحة حرية التعبير والتي يفتخر النظام انه جعلها سمة من
سمات الحداثة حاليا. فكم مدون اقتيد الى السجن وكم كاتب وخطيب وناشط
حقوقي يجد نفسه في سجون النظام دون ان يخضع هؤلاء لقانون او محاكمة
علنية عادلة. وكم من ناشط خرج من السجن ليمنع من السفر دون أي سبب واضح
وصريح. مناقشة قانون ما تكون مجدية في دولة قانون ولكن في دولة الحكم
المشخصن ليس لهذا القانون او غيره وظيفة سوى الهاء الجمعيات الحقوقية
العالمية والمحلية بنقاش عقيم لن يقدم او يؤخر في القضاء على ممارسات
تعسفية او اعتقالات عشوائية لا تخضع الا لارادة الوزارات الامنية في
السعودية. اما المقولة الثانية والتي تتخوف من تطبيق هذا القانون
الجزائي على معارضين سلميين فهي ايضا غير دقيقة حيث ان النظام السعودي
لا يعترف بوجود معارضة لا في الداخل ولا في الخارج ويعتبر ان سياسة
الباب المفتوح المزعومة هي وسيلة حضارية للتواصل بين الحاكم والمحكوم
ومنفذ لتقديم النصيحة والتشاور حيث تحول الحاكم الى اذن صاغية ولكنها
غير ملزمة بأخذ النصيحة على محمل الجد.
ومسرحية المجالس المفتوحة المتكررة والمتلفزة تتحول فجأة اما الى
حلقة تسول معروفة لتقديم العرائض المطالبة بالاعانة والاتاوة او لاطراب
مسامع المسؤول بكلمات المديح والتبجيل والشعر والقصيد المنمق والتي على
خلفيتها تتحف القيادة صاحبها ببعض الكرم والتقدير المعنوي والمادي واما
الى حلقة اشبه ما تكون بالمونولوج حيث يتصدر الحديث شخصية ما وما على
الجميع الا الانصات للحكمة وحسن تدبير الامور.
ففي بلد لا تقبل قيادته بمفهوم المعارض ويروج لمصطلحات المشورة
والنصيحة المبهمة لن يتحول قانون تجريم الارهاب الى مسودة حقوقية لمن
يعتبر نفسه معارضة حقيقية حيث ان هؤلاء غير معترف بهم وغير مقبولين من
قبل السلطات التي تتجاهل حقيقة واقعة على الارض. وكلما كثر عدد
المساجين السياسيين والناشطين الحقوقيين في السعودية كلما زادت قناعتنا
ان المعارضة رغم عدم الاعتراف بها هي موجودة وتجذب عددا كبيرا من
النشطاء الذين لم يقتنعوا بجدوى المجالس المفتوحة وطرق الابواب المغلقة
فلجأ بعضهم اما للحراك السياسي الفعلي او الافتراضي ليشارك في بناء وعي
عام وشامل ويتجاوز معضلة المعارضة غير المعترف بها او المتهمة من قبل
السلطات.
اما المقولة الثالثة والتي روج لها بعض الناطقين باسم النظام والتي
تعتمد على ان الاخطار المحدقة بالسعودية تتطلب مثل هذا القانون الجزائي
الصارم فهي ايضا مغلوطة تحاول خلط الامور فحماية اي بلد من الخطر
الخارجي لا يضمنها قانون بصيغة مبهمة فضفاضة بل بمجالس تمثيلية
وانتخابات حرة ومعارضة حقيقية تفضح المستور وتسلط الضوء على المخفي
لتصبح دولة الشفافية حقيقة فعلية غير مرتبطة بارادة الحكومة واهوائها.
وبهذا يضمن المجتمع سلامته وليس فقط سلامة النظام حيث ان هذا الاخير
مهموم هذه اللحظة بأمن الدولة وليس أمن المجتمع والذي يعتبر هو المتهم
الاول في تقويضه خاصة عندما تقتحم فرقه الامنية والاستخباراتية حرمة
المنازل وتعتقل من تشاء دون حتى ورقة تصدرها محكمة قانونية فأين هم
الشخصيات التي تم اعتقالها بموجب طلب من المحكمة والكل يعلم كيف تنقض
اجهزة الامن في عتمة الليل على بعض الشخصيات لتجرها الى السجن حيث يطول
اعتقالها دون اي تهمة واضحة وصريحة.
اما ان نعتقد ان في جهاز الدولة السعودية طرفا واحدا مسؤولا عن
الحكم التعسفي فهو ايضا يعتمد على نظرة مفتوحة لآلية الحكم المتعدد
الرؤوس في السعودية ورغم ان وزارة الداخلية هي دوما المتهمة في قضايا
السجن التعسفي والتقييد على حريات المواطنين الا ان طبيعة الحكم في
السعودية مبنية على مشاركة حفنة كبيرة من المتمكنين في تثبيت دعائم
الحكم وأمن النظام فما اسهل ان يعتقل احدهم ويزج به في السجن لمدة
طويلة بناء على توصية متعجرفة من احد هؤلاء المسؤولين. ومحاولة تبرئة
الملك من خفايا القانون الجزائي الجديد واحراجه امام الرأي العالمي
والداخلي تفهم على انها اما استهتار بقدرة ملك ربما لا يحكم او عملية
تورط هو بعيد عنها وفي الحالتين لا يوجد تبرير لمثل هذه التفسيرات
الملتوية والمعوجة والتي تتجاهل حقيقة نظام قائم على اهواء شخصية من
الصعب على غير المطلع على الممارسة السياسية السعودية ان يفهمها ويفهم
ابعادها على حياة المواطنين اليومية والاجتماعية وحرياته المقيدة.
وقد فهم النشطاء السعوديون في الداخل قوانين اللعبة السياسية
وتحزبوا لهذه الشخصية او تلك علهم يجدون ملاذا آمنا لعملهم السياسي
ولكن الكثير منهم فوجئ بقرارات سجنه او منعه من السفر لان تضارب
المصالح واهتمامات هذه الشخصية او تلك تقتضي تعدد الرؤوس المهيمنة
وتخبط صنع القرار في اروقة الحكم والذي يخضع لتقاسم الادوار حيث يصبح
كل رأس مسؤولا عن ملف خاص في الدولة من اجل ضمانة سلامة الجميع على
حساب ابسط مفاهيم حقوق الانسان المعترف بها دوليا ناهيك عن كون هذه
الرؤوس فوق قانون المحاسبة والذي يطبق فقط على عامة الشعب.
ان اخطر ما في صياغة هذا القانون الجزائي الجديد هو اضفاء صفة شرعية
حقوقية على ما هو ممارس حاليا حيث ان التشكيك في سياسة الدولة ورؤيتها
يصبح عملا اجراميا يعاقب عليه بالسجن وهذا ما لا يقبله اي عاقل فكيف
لدولة ان تتطور ان هي اعتبرت نفسها مقدسة لا تزل ولا تخطئ وكيف يعاد
النظر في سياسات قديمة من اجل تجديدها وتنقيحها واعادة صياغتها فان
كانت الشخصيات الحاكمة حاليا مقدسة فقراراتها لا تقبل النقاش او الجدل
بل تصبح نصا مقدسا يستحضر في المخيلة الاسلامية دولة النبوة وبعدها
دولة الخلافة الراشدة التي يستقي منها مسلمو العالم ويستحضرها العالم
الاسلامي لصياغة سياسته تجاه مواضيع وقضايا الحاضر ان كان هؤلاء يحكمون
بشرع الله كما تروج له الآلة الاعلامية السعودية. ويغيب عن ذهنية
القيادة السعودية ان المنزه المعروف للجميع هو الله سبحانه وتعالى وليس
حفنة من القادة الذين يلهثون خلف استتباب حالة وهم امام متغيرات عالمية
وعربية لم تعد تقبل بعصمة الحكام وقدسيتهم وصدارة قرارهم السياسي.
ان مسودة القانون الجزائي الجديدة ما هي الا تمويه اعلامي يضفي صيغة
قانونية على ممارسات قديمة في مرحلة حرجة تحاول القيادة السعودية جاهدة
ان تمر دون ان يطالها بعض التغيير المرجو والذي يسعى له الكثير ممن هم
الان في السجون السعودية. فدولة القانون لا تنشأ على خلفية مسودة بل
على ارضية تقبل بالحراك السياسي والتمثيل الشعبي وحرية الرأي والمعارضة
التي تلعب دور الرقيب على السلطة ورجالها.
* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي |