استلاب الهوية الاجتماعية المذوتة

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: الأنظمة التي تقوم بصورة مباشرة جدا أو حصرا على القوة هي أنظمة غير مستقرة في صميمها، رغم أنها يمكن، بثمن باهظ اقتصاديا واجتماعيا، أن تستمر بعضا من الوقت. لكن بالنسبة الى ظهور الأشكال الاجتماعية المستقرة نسبيا واستمرارها، فإنه لابد من أن يكون هناك نسبة من الأفراد في المجتمع توصلوا الى الاعتقاد بأن القوة التي يحتمل أن تكون قاهرة والممارسة التي تمارسها السلطة هي أخلاقية ومشروعة. بذلك يطور قدر جيد من الأفراد إحساسا بالتلاحم الطوعي أو الولاء للدولة، ويعبرون، بفعلهم ذلك، عن شكل ما من أشكال الهوية الاجتماعية.

يمكن أن تكون الهوية الاجتماعية المذوتة الى هذا الحد أو ذلك، مرتبطة بإحساس خاص أكثر بالولاء لفئة اجتماعية بعينها بحكم الامتثال السلوكي الطوعي. تنقسم المجتمعات الحديثة كلها انقسامات اجتماعية مختلفة: فتعقيدات العرقية، الطائفية، موقع الأقلية، التماسك الطبقي الاجتماعي كلها تتراكب مع قضايا ولاء المواطنين النهائي للدولة الذي يشتمل على خضوع طوعي لتوجيهاتها الاجتماعية المنظمة ولجهازها الإداري. على انه يمكن لأنماط الولاء للسلطة الأكثر بعدا وللروابط الفئوية المرجعية الأكثر قربا أن تدخل في حالة صراع. فقد يدعم المرء ولاء نهائيا إما للعائلة الأساسية أو لفئة الأنداد، أو لجماعة ما يعيش معها وجها لوجه أو للكيان السياسي الأكبر، والولاء يرتبط بالاعتراف بالسلطة الأخلاقية. أما أولئك الذين يرغمون إرغاما على الخضوع والطاعة فغالبا ما يفتقرون لمثل ذلك الإحساس بالولاء.

على المرء الباحث أو القارئ لأية دراسة نفسية ـ ثقافية، أن يتفحص ضمن سياقها الاجتماعي المحدد، كيف تظهر الاهتمامات بالسلوك الأخلاقي، الواجب أو الالتزام في الفكر والوعي. بل الأكثر أهمية هو أن يتفحص كيف وفي أي سياق محدد يصبح أي اعتراف بالسلطة مرتبطا بتذويت أو اضفاء الصبغة الذاتية على الكبح الاجتماعي، أو على العكس الانكفاء داخليا في حالة استلاب. من الممكن التعبير عن ذلك بالتوجه خارجيا في أنماط من السلوك المنحرف الشاذ، بما في ذلك ذو الطبيعة السياسية أو الإجرامية.       

ما يخطط لأن يكون سلوكا سياسيا أو اجتماعيا ممتثلا أو منحرفا، لا يكون كله بدافع نفسي ـ ديناميكي على الصعيد ذاته من النضج ـ الاجتماعي. خطيئة الكثير من المنظرين الاجتماعيين زعمهم أن الصراع السياسي، حتى السلوك المنحرف، غالبا ما يكون مدفوعا بدوافع راشدة عقلانية. فأشكال الانقسام السياسي أو مختلف أنواع ما يدعي بالسلوك الشاذ ليست كلها متساوية نفسيا داخليا: إذ أن التغيرات التي تحدث أثناء النمو والتي تحكم دوافع الإنسان وما ينتج عن ذلك من سلوك هي أكثر تعقيدا بكثير. الإحساس الذاتي بالاستلاب إنما ينجم عن تجارب على مختلف أصعدة النضج الإنساني.

في أواخر أربعينيات القرن العشرين، حين أطلق سراحهم من معسكرات عزلهم، تحرك 17 ألف ياباني بوحدات عائلية الى مساكن رخيصة سيئة أتيحت لهم ضمن مناطق الجنوح العالي لمدينة شيكاغو، حيث كان سكان هذه المناطق قد خضعوا لدراسات متعمقة من قبل علماء نفس وعلماء اجتماع في جامعة شيكاغو ومعهد أبحاث الشباب الذي تديره الدولة.

لقد تنبأ هؤلاء، استنادا الى دراساتهم السابقة عن آثار هذه الحالة داخل المدن على فئات سكانية أخرى، بأن يصاب أولئك اليابانيون بالتحطم على الصعيد الشخصي والعائلي وبمختلف الأشكال الأخرى للاستلاب الاجتماعي نظرا لأن إطلاق سراحهم تم بسرعة من مخيمات العزل الحكومية. لكن، بالنسبة للدارس، الأمريكان ـ اليابانيين القادمين، وجد  أن أدائهم لم يكن سلبيا كما يتوقع من أفراد أقلية تواجه تمييزا عنصرا قويا ومستمرا وتعيش في مناطق انحلال مديني.

فهم لم يخضعوا للأشكال المعتادة من التعصب الموجه عرقيا وحسب، بل كانوا قد اقتلعوا من منازلهم في الساحل الغربي الأمريكي من قبل حكومتهم ووضعوا في معسكرات خاصة لسنوات عدة. مع ذلك لم يتصرفوا كما توقعت التكهنات، لماذا كان الأطفال والشبان اليابانيون، خلافا للأقليات الأخرى الساكنة في منطقة الانتقال هذه في شيكاغو ، يعملون جيدا في المدرسة، لماذا كان كبار السن منهم يجدون بشكل من الأشكال أعمالا لهم ويتقدمون في المهن المتخصصة؟ لقد تجاوزوا النفور، لماذا؟ لأنهم كانوا عمالا شديدي الكفاءة، سرعان ما صار أرباب العمل يبحثون عنهم بدلا من أن يرفضوهم.

أعتقد، الفرد العراقي تعرض طوال حياته الاجتماعية على هذه الأرض، أكثر من غيره، الى ألوان كثيرة من الحرمان والاضطهاد والحروب والحصارات، ولا يزال. لكن، لو تتبعنا جغرافية مسيرة مواطنيته، هذا الفرد، الولاء والانتماء، لا يبعد عن العراق، الوطن والأرض والشعب واللغة والنهر وصولا الى الأكلات والعادات..الخ.

اكتسبت شخصيته صلابة ومنعة مما جعله مرحبا فيه أينما حل، بخلاف الكثير من الجاليات التي بضمنها عربية. شغل في الأعمال كافة الأنواع، أبدع في مجالات لا تعد ولا تحصى، معطاء لا يمل. كذلك، يبدع في المجال والتخصص الذي يشغله، ويبحث عن التفوق في المجالات الأخرى. قال فيه الشاعر:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى... وحنينه أبدا لأول منزل

والمقصود هنا بالمنازل المقامات، البيئات  والأحوال المعيشية والأسرية وكل ما يتصل بالتنشئة الاجتماعية.

يأخذ معه، دينه وطائفته وقوميته وساعده وعقله،عاداته وتقاليده، يجوب الأقطار، لكن، لا تصهره الثقافات والانتماءات الجديدة، انه يتأقلم!. الغريب، ان عينه على العراق ولو بعد عقود من السنين، يعود ن وهو يحمل اللهجة والحنين والطبائع، ذاتها التي غادرها مرغما. لم تغيره النظريات الاجتماعية التي تبرهن على التغير، يأكل ويتصرف ويتمازح وينمو داخل البيت الأمريكي ويدرس في المدرسة الأمريكية، يتزوج من الأمريكية، لكن، يبقى بشخصيته العراقية، انه بحاله متفرد، وما ذلك إلا لقوة هويته الاجتماعية، التي تتغلب على التفاصيل الجزئية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 3/آب/2011 - 2/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م