المثقف المتملِّق

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: بنية الثقافة في أي بلد أو أمة تستند الى ركيزتين، الأولى ركيزة المعطى الثقافي، بدْءاً من نقطة الشروع الموغلة في أعماق التأريخ، مرورا بمراحل التكوين والتبلور، وصولا الى الصورة الراهنة لذلك المعطى، الركيزة الثانية هي المثقف الذي اشترك ولا يزال في بلورة الثقافة، وصياغة مضامينها، طبيعتها، مساراتها، سكونها وحيويتها، وأخيرا قدرتها على مواكبة ثقافات العصر.

ويبقى المثقف هو الركيزة الأهم في تأثيث البنية الثقافية، كونه رافدها الأهم، بما يجعلها أكثر تأثيرا وتطويرا للبنى الأخرى في الأمة او المجتمع، فبنية التعليم مثلا، تأخذ قدراتها ومساراتها من بنية الثقافة، وينطبق هذا على البنى الأخرى، فإن رقَتْ الثقافة أصبح المجتمع كله في محل إرتقاء، والعكس يصح بطبيعة الحال، وطالما كان المثقف ركيزة البنية الثقافية الأهم، فالأمر برمته يكاد ينعقد على هذه الركيزة، وأعني بها المثقف.

إذا صحَّ المثقف صحَّت الأمة أو المجتمع، ولكن الاشكالية القائمة أبدا، هي أن المثقف نفسه نتاج البنية الاجتماعية قبل الثقافية، ولذلك تنعكس أمراض المجتمع (أخلاقية أو عرفية أو غيرها) على الثقافة، من خلال المثقف نفسه، وطالما كان مرض التزلّف أو التملق حاضرا في البنية الاجتماعية، فإنه سينتقل حتما الى البنية الثقافية، من خلال وسيط مهم هو المثقف المتملّق.

هذا النوع من المثقفين، يشكل خطرا كبيرا ليس على بنية الثقافة ومساراتها فحسب، إنما تمتد خطورته الى البنى السياسية والاجتماعية وغيرها، وبدلا من أن تشكل الثقافة عنصرا داعما لترميم البنى الاخرى، وتعضيدها وتصحيح مساراتها نحو الافضل، يحدث العكس، فتزدهر حالة التملق وتنمو وتعيش عصرها أو عصورها الذهبية، طالما كانت الثقافة المريضة مصدرها، ولهذا تسود حالات الغبن والانتهازية ومحاربة الكفاءات، في المجتمع او الأمة الحاضنة للمتملقين وهم كما تشير الوقائع كثر، إنهم موجودون ومنتشرون في عموم البنى، ولكن أخطرهم هو المثقف المتملق.

السبب واضح بطبيعة الحال، فهذا النوع من المثقفين ينتج ويبلور ثقافة مريضة، لا تتحرك ولا تنمو إلا بدافع من حالات وأساليب التزلّف بأنواعها، وهكذا تسهم الثقافة والمثقفون، بصنع سلسلة من الثقافات ويمكن تسميتها بـ (السلوكيات المريضة)، ومنها مثلا صناعة الطغاة، حيث تندفع الامة تحت ضغط وتوجيه الثقافة المتملقة، لصنع طاغية ما، لم يكن يحلم او يفكر في يوم ما، أنه سيصبح قادرا على التحكم بمصائر الملايين، وهذا ما حدث في تجارب تأريخية وراهنة في الامم والمجتمعات الحاضنة للتملق.

وهكذا بدلا من أن تكون الثقافة محفزا لتحديث الأمة، تصبح كابحا لتطورها، والسبب دائما، مثقفون متملقون يحسنون المسح على الأكتاف، ويتقنون الانتهازية كإسلوب حياة، لا يستطيعون مواصلة العيش من دونه، فتشيع ثقافة متلكئة متزلّفة، وتنمو سلوكيات بائسة بين أفراد وجماعات المجتمع، والسبب أصلا، مرض التزلّف الثقافي.

المطلوب معرفة وتأشير كل ما ومَن يشترك في ترسيخ هذه الثقافة المريضة، ولا علاقة للكياسة والمجاملات المشروعة بالتملق قط، فكلاهما نقيضان لبعضهما، فلا تعني الكياسة أن تتزلف للآخر قط، ولا تعني المجاملة المطلوبة أن تثني على من لا يستحق الثناء، وهو ما يفعله المثقف المتملق، الذي لابد من مكافحة وجوده وتسلله الى مسارب الثقافة، حتى يتسنى للمجتمع ترميم بنيته الثقافيه، التي تتصدر البنى الاخرى وتسهم في تصحيح مساراتها الأخَر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 2/آب/2011 - 1/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م