في الطريق الى مرتفعات تطل على مونتريال، كنا بإنتظار صديق قدم من
أمريكا، وكان إستأجر سيارة خاصة للتنزه والتنقل، كانت الجولة ممتعة مع
دخول البلاد في دائرة الصيف الهندي، وتعدد الألوان الأخاذة التي تطبع
أوراق الشجر.
قصة الشاب الفلسطيني، إن أمه مصرية، وأبوه من فلسطين، مات في
الامارات بعد عقود من العمل في قطاع التعليم، الإماراتيون وحسب
قوانينهم لم يمنحوه الإقامة، والمصريون أخواله لم يسمحوا له بدخول مصر
للإقامة فيها، والفلسطينيون فعلوا ذات الشيء!
بقي الشاب حائرا، ماذا يفعل، لكن الفرج جاء من الشرق من باكو عاصمة
آذربيجان، البلد الوحيد الذي إستقبله ليعمل في غسل الصحون. جاءت
الموافقة من كندا، ليتحول الى هناك، ويكون مواطنا من الدرجة الأولى،
وبلادوخة راس لا فلسطينية ولا مصرية ولا إماراتية، بإستثناء ذكرى طيبة
عن بلاد الآذر.
قصة صديقتي الكندية فرح، النابتة من جذور فلسطينية، على لبناني، على
إماراتي، فيها من الشبه الكثير، ومن العذاب ماهو أكثر. تقول فرح: كنت
صغيرة، ولم أعرف لم يتسلل والدي أحياناً عبر شباك مغطى بخزانة، يطل على
حديقة جدي في برج البراجنة /الضاحية الجنوبية لبيروت، كان والدي عضوا
في الحزب القومي السوري. كان عمري خمس سنين، وكنت أحفظ كل الأناشيد
الوطنية، وكان أبي يباهي بي، وحين يرى ضابطا في المكتب الثاني (شعبة
مخابرات لبنانية)، يمر من أمام المنزل، كان يطلب مني أن أقف على حافة
البلكون وأغني الأناشيد، وكان الضابط يصرخ بوجهه: نحنا ما رح نصدق نخلص
منك حتى. تطلع لنا بنتك فيجيب أبي: عمرها 5 سنين يلا إعتقلها.
ولدت في بيروت وعشت طفولتي هناك، والدي علمني عشق لبنان وعشق
الجنوبيين الذين إحتضنونا وقت النكبة ولوقفتهم معنا في قضيتنا. سافرنا
الى الإمارات وعشنا ومازلنا هناك منذ أكثر من 36 سنة، لكننا نشعر
بالغربة، كانت الإمارات أجمل في عقود مضت. نحن نترحم على أيام
السبعينيات، وأيام البركة، وأيام الشيخ راشد والشيخ زايد. قررنا تقديم
طلب هجرة الى كندا، وجئنا الى مونتريال. أشعر أن كندا وطني، وبيتي
ومملكتي. والدي من مدينة عكا شمال فلسطين المحتلة، وتحت وطأة الإحتلال
هرب وأهله الى لبنان.
كنا ومازلنا نسمى لاجئين، كم أكره هذه الكلمة. أشعر بالإهانة. لا
حقوق لنا بالمطلق، لا حق عمل، ولا حق تملك بيت. حكموا علينا بالبقاء في
المخيمات وكل هذا بحجة (حق العودة).. في الإمارات عشنا وافدين ومازلنا.
كانت حياتنا أفضل بكثير من لبنان، لكننا نريد أن نشعر بالأمان ونشعر أن
لدينا دولة تحمينا وهكذا هاجرنا الى كندا.
في مطار بيير ترودو (مطار مونتريال الدولي)، ومن أجل إستكمال
إجراءات الهجرة طلب مني ضابط الهجرة التوقيع على بعض الأوراق (لشدة
الفرح صرت أبكي وبدأت يداي ترتجفان، سألني من بجواري عن الحال التي أمر
بها؟ قال له ضابط الهجرة: دعها تأخذ الوقت، فأجبته: طال إنتظاري للحصول
على هذه الأوراق، وبكائي هو نتاج فرحي.. قال : (على الأقل أنت هنا،
أهلاً وسهلاً بك في بلدك كندا)..
تخيل ياهادي جلو مرعي، أقطع آلاف الأميال عن وطن أجدادي، وعن البلد
الذي قضيت فيه 30 سنة من عمري غريبة، ليقول لي شخص آراه للمرة الأولى
في حياتي ولا تربطني به رابطة قومية أو دينية: مرحبا بك في وطنك! في
وطني!! كندا.. نعم، هي بلدي، ومونتريال هي مملكتي.. في مونتريال صرت
أكثر فلسطينية من السابق.
أصبحت ناشطة من أجل أهلي الذين بقوا في فلسطين يناضلون، وكل من
آراه من الحقوقيين ويعرف أنني فلسطينية يرحب بي بشكل جميل. لي علاقات
ممتازة مع نشطاء من إتباع الديانات والقوميات المختلفة. ونقوم بأعمال
إجتماعية وثقافية. في كندا إشتريت بيتا، وهذا محرم علي في لبنان، أو
دبي. هنا أعيش بكرامة وحرية. كل الحب عشته هنا. لما رجعت الى الإمارات
قالت لي أختي: لم أعلم أنك تعتبرين نفسك فلسطينية. كل عمرك كنت تقولين
إنك لبنانية. ماذا حصل؟ أجبت: في كندا تعرفت الى نفسي أكثر. نعم أعشق
كندا بكل جوارحي، حلفت اليمين حين حصلت على الجنسية بحماية كندا
والدفاع عنها وقت اللزوم وأنا أعي ما أقول..
كلمة أخيرة أقولها لمن يريد إبقاءنا في المخيمات ويرفض لنا العيش
بكرامة بحجة حق العودة : حججكم واهية، أنتم تخافون من نجاحنا ولا
تريدون لنا الخير.
hadeejalu@yahoo.com |