توجد الآن ثلاثة عناصر تصنع الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها،
الانتفاضات الشعبية على حال الاهتراء السائد عربياً في الأوضاع
السياسية الداخلية، بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي
في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي
الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد الذي كان تائهاً بين
السلبية والتطرّف.
فصحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً
مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على
الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك هي حاجة ماسَّة الآن لمشروع عربي
نهضوي مشترك، كما هي الحاجة للمشاريع الوطنية التوحيدية داخل الأوطان
نفسها.
إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف على سوء الأوضاع
العربية الداخلية وعلى المخاطر الناجمة عن المطامع الأجنبية فقط، بل
تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية العرب لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم
السياسية والاجتماعية، وعلى كيفية علاقاتهم مع القوى الخارجية.
ولعل التّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة
يتطلّب تحديد جملة مفاهيم وبرامج عمل ترتبط بالهويّة والانتماءات
المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية
بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصّحيح للعروبة وللمواطنة
وللعلاقة مع "الآخر"، وأخيراً في التلازم المنشود بين الأهداف الوطنية
وأساليب العمل اللاعنفية.
ونجد في السياق العام لتاريخ المنطقة العربية أنّ "الخارج الأجنبي"
يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت ذاته الذي يدفع هذا "الخارج"
فيه أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم والارتباط المصلحي معه.
هناك تغيير بلا شكّ سيحدث في المنطقة، لكنّه حتى الآن تغيّر متوقَّع
دون حسمٍ للاتجاه الذي يسير فيه.. أي أنّ هذه المتغيّرات العربية تحدث
الآن باتجاهات مختلفة، وليس لها مستقرّ واحد يمكن الوصول إليه. فجملة
عوامل تتفاعل الآن لإحداث تغييرات داخل المنطقة العربية. بعض هذه
العوامل هو نموّ طبيعيّ في مجتمعات الأمَّة، وبعضها الآخر هو مشاريع من
الخارج يراهن على حصادٍ خاصّ يتناسب مع مصالحه في داخل المنطقة.
ولم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان
الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، فقد أصبح لكلِّ بلد
عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة
لهذه القضايا؛ مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي
والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية
والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى إستمرارية وجود مشكلة
الاحتلال الإسرائيلي.
ولعلَّ المنطقة العربية الآن في حالٍ شبيهٍ بما كانت عليه دول
أوروبا الشرقية، عشيَّة انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عقد
الثمانينات، وما نتج عن هذا الانهيار من ولادة أوضاع جديدة سياسياً
واقتصادياً واجتماعياً في كلّ دول أوروبا الشرقية. بل من المهمّ أيضاً
التوقّف عند ظواهر تفتّت بعض الكيانات الأوروبية بحكم الصراع المسلّح،
كما حدث في يوغوسلافيا، أو الانفصال الديمقراطي السلمي، كما حدث في
تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين.
لكن هذه التغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية كانت تتمّ أيضاً
بتحريض (أو توظيف أحياناً) من قبل الإدارة الأميركية، التي ركَّزت،
بالثمانينات في فترتي حكم رونالد ريغان، على محاربة الشيوعية وعلى
إثارة عناوين الدين والقوميات والديمقراطية في دول المعسكر الشيوعي،
إضافةً لتأثيرات وجود "حلف الأطلسي" عسكرياً وسياسياً على الأراضي
الأوروبية.
طبعاً، لم تختر إدارة ريغان في تلك الحقبة الزمنية كلّ الاتجاهات
التي سارت عليها دول أوروبا الشرقية بعد تغيير أنظمتها الشيوعية، أي لم
تكن واشنطن مثلاً مستفيدةً كثيراً من وحدة ألمانيا، بينما استفادت (واشنطن)
من الصراعات في يوغوسلافيا التي أظهرت عجز أوروبا عن حلّها دون الحفاظ
على دور "حلف الأطلسي" وعلى الدور القيادي للولايات المتحدة، حتّى في
النزاعات الأوروبية الداخلية.
وحينما تحدّث الكثيرون من العرب في حقبة التسعينات عن مخاطر مشروع
استبدال "الخطر الشيوعي" على الغرب بنظرية "الخطر الإسلامي" وقاعدته في
البلاد العربية، وعن المبشّرين بهذا المشروع في الولايات المتحدة
وإسرائيل، غاب عنهم (أي العرب) أنّ ذلك سيعني تكرار ما حدث في أوروبا
الشرقية، من تحريكٍ خارجي لعوامل داخلية بهدف إحداث تغييراتٍ نوعيّة في
الحكومات وفي المجتمعات.
والجدير ذكره، أنّ معظم قادة "الحملة الريغانية" ضدّ الشيوعية كانوا
هم أنفسهم في مواقع مسؤولة في فترتي إدارة الرئيس السابق جورج دبليو
بوش، وهم الذين قادوا شعار "الحرية" في الإدارة الثانية لبوش، بعد أن
كانت "الحرب على الإرهاب القادم من الشرق"، عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول
2001، هي شعار الإدارة الأولى.
وكما أوجدت إسرائيل لنفسها دوراً هامّاً بالنسبة للغرب وأميركا في
فترة الحرب الباردة ضدَّ الشيوعية، أوجدت إسرائيل أيضاً الأسباب
الداعية لاستمرار دعمها أميركياً وغربياً من خلال الحرب على الإرهاب
ومواجهة "العدوّ الجديد" في منطقة الشرق الأوسط.
***
أسئلة عديدة معنيّةٌ بها الآن الحركات الشعبية العربية وقادتها، في
ظلِّ هذه الانتفاضات الشعبية العربية الحاصلة من أجل الديمقراطية
والإصلاح في المنطقة.
وإذا كانت أيّة دولة تعني مزيجاً من الحكم والشعب والأرض وعلاقات
الجوار، فإنّ السؤال الهام، الذي سيكون أمام المتغيّرات القادمة في أيٍّ
من الدول العربية، هو: كيف الحكم، لأيِّ شعب، على أيِّ أرض، وبدعم من؟!.
إلا أنّه مهما جرى من اختلافٍ على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ
أولاً لوحدة هذا الشعب، ولحرّية هذه الأرض، ولرفض أي هيمنة أجنبية،
ولعدم تحطيم مؤسسات الدولة الواحدة.
فهناك علاقة جدلية واضحة في المنطقة العربية بين سوء الحكم في
الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج. كما هي أيضاً العلاقة السببية
بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية
المعارضة فيها. فكلّما غابت البنى السياسية والدستورية والاجتماعية
السليمة في المجتمعات، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيدٍ
من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد. وتزداد المشاكل الداخلية تأزّماً
كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج من أجل ضمان استمراره في الحكم، أو
سعياً ربّما لدى البعض الآخر للوصول إلى الحكم، فإذا بها تصبّ لاحقاً
بهم، وبالأوطان معاً، في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.
إنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً، ومنذ احتلال العراق في
العام 2003، هو تساقط الأوطان العربية واحدها بعد الآخر، وانشغال شعوب
المنطقة بصراعاتها الداخلية. فمِن رحْم هذه الصراعات تتوالد أزمات
سياسية وأمنية عديدة أبرزها الآن ما حدث في السودان وما يظهر من مخاطر
الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى التنافس المسلّح على
السلطة والحكم.
إنّ الحرّية، قبل أن تُمارَس كعملية دستورية ديمقراطية بين
المواطنين، هي حرّية الأرض وحرّية الوطن وسيادة الشعب على أرضه وقراره
الوطني. فكم هو مؤسف ومحزن معاً أن تقترن الدعوة إلى الديمقراطية الآن
بسِمات التدخّل الأجنبي من الخارج وبالانقسام الطائفي والإثني من
الداخل. فالمشكلة عربياً هي ليست حكراً على كثرة المخطّطات والمشاريع
الدولية والإقليمية التي تستهدف البلاد العربية، بل أساس المشكلة هو في
واقع الحال العربي الذي نجح وينجح في معارك التحرّر الوطني من الاحتلال
الأجنبي، إلا أنّه يفشل في بناء أوطان ومجتمعات صحّية قائمة على أنظمة
سياسية سليمة، وعلى حسمٍ لهُويّة الأوطان ولمفهوم المواطنة.
هاهو "الانتداب الأجنبي" الذي خرج من أوطانٍ عربية مركولاً من قِبَل
أهل الدار، يعود الآن من نوافذ عديدة في المنزل العربي المصدّع
والمهدّد بالانهيار!.
*مدير مركز الحوار العربي في واشنطن
Sobhi@alhewar.com |