لا مشاحة أن الوصف شعرا أبلغ منه نثرا إلا ما قل وندر، وإن كانت
الألفاظ المستخدمة واحدة أو متقاربة، فالنفس بطبيعتها ميالة إلى
استحسان الشعر وتذوقه فأعذب الكلام ما كان أشعره، وهو الأركز على الحفظ
والبقاء، ويتصف بالخيرية من الكلام كما ورد عن الإمام الحسن بن علي(ع)
(خير الكلام ما قلّ ودل ولم يطل فيمل) بخاصة إذا جاء مرصعا بالقافية
والوزن وجزيل المفردات فهو الأقرب نفاذا إلى قلب المتلقي والأثقل وزنا
في ميزان الكلام.
ويتوزع الوصف على مشارب كثيرة بعدد أغراض الحياة ومصاديقها، وتزداد
ألوان الأوصاف في جانبه النثري، وتقل في جانبه النظمي، أو بالأحرى يكثف
فيه وصف الحبيب وكل ما يمت به صلة من قريب أو بعيد ولاسيما أـطلاله،
ولكل شاعر بيئته الوصفية، فالبدوي له شواهده الوصفية ومسمياتها تختلف
عن الشاعر القروي، وهما يختلفان عن الشاعر المديني، فالبدوي يصف من
الأطلال بقايا الرماد ومخلفات البعران والجمال، والقروي يصف الجدران
المنهدة، وشاعر المدينة يظل يتردد على دار الحبيبة يسرق نظرة من لحاظها
عبر النافذة أو شقِّ الباب أو بسمة من ثغرها تكشفها ريح عبثت بعباءتها.
والوصف من الأغراض الشعرية الأكثر شيوعاً حيث يعتمده الشاعر في
إخراج مكنون أحاسيسه ومشاعره تجاه الموصوف، وبيان منطقه الشعري في
إزجاء أدق سحب الألفاظ وأرقها حتى تنهمر قطرات الوصف في البلدة الصماء
فتثمر جمالاً تعجب الزراع والنظّار معاً، وإذا كان الموصوف شخصية
كالإمام الحسين(ع) غرَّد طيره على نافذة كل حر ومقهور، أو موسوعة يتيمة
دهرها كدائرة المعارف الحسينية، أو قلما سيالاً متنوع الأبواب كقلم
الموسوعي المبدع الشيخ محمد صادق الكرباسي، فلاشك أن الوصف سيخجل من
بيان كامل معالم الموصوف، فالكلمات ترقص ثملة لا تقوى أجنحتها على
تناوش المحبوب، وقد أبدع الشاعر والخطيب العراقي الشيخ صادق جعفر
الهلالي في تناول الموسوعة الحسينية وصفا في جوانب كثيرة من كوّة
النهضة الحسينية، في ديوانه الجديد الصادر حديثا (2011م) عن بيت العلم
للنابهين في بيروت في 72 صفحة من القطع المتوسط.
حياة النفوس
ليس كل موت زوالا وفناءً وليس كل حياة بقاءً وهناءً، فبعض الموت
حياة وكثير من الحياة موت، فالأحياء في عالم الدنيا هم من الكثرة يصعب
عدّهم، وكذا الأموات من الأمم السابقة والحقب الماضية، لكن الأسماء
الشاخصة في عالم الحياة من الأموات والأحياء هم قلة قليلة لأن فعلهم لا
يقدر عليه إلا قلة ولذلك فإن القلة في عالم عمل الخير هم من يُشار
إليهم ببنان المدح والثناء، ومن هنا كان النبي إبراهيم (ع) مضرب
الأمثال في الأممية القائمة على الواحدية الفاعلة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
كَانَ أُمَّةً) سورة النحل: 120، لأن فعله عظيم فيه إحياء للأمة، فمن
أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف وقد أحيا عالم البشرية،
فهو عظيم وإن رحل جسداُ، فما يبقى من العظيم اسمه وإن عفي رمسه، فقتل
النفس هو قتل للبشرية وإحياء النفس هو إحياءٌ للبشرية وهذا ما عبر عنه
القرآن: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) سورة النحل: 32.
من هنا تمثل التضحية بالنفس أعظم التضحيات في سبيل إحياء الآخر،
ولذلك يُعد موت العظيم وتضحيته احياءً للناس ويبقى اسمه على الألسنة
فقيمه النيرة التي استشهد من أجلها تظل سارية المفعول تؤتي أكلها كل
حين، ولا تضحية أعظم من تضحية الإمام الحسين(ع) الذي ترفل الأمة
الإسلامية ومنذ أربعة عشر قرناً بنعيم شهادته، حيث أقام الإعوجاج الذي
حلَّ بدين الإسلام، ولهذا يعتبر الشاعر الهلالي في قصيدته الكافية أنَّ
شهادة الإمام الحسين(ع) حياة للدين والبشرية، كما في قصيدته الكافية
المعنونة "الصادقُ موسوعيُّ الحرك" في 20 بيتاً من بحر الرَّمَل، حيث
يقول في مطلعها:
أعذبُ الشعر بما كان سَلَكْ *** منهجاً فيه هوى السبط مَلَكْ
ثم يصل الشاهد وهو في معرض تعظيم دائرة المعارف الحسينية:
يا لها من تحفةٍ كرَّمها *** خيرُ سبطٍ كان بالطف ملكْ
كيف لا يحيا وقد أحيى لنا *** دينَ طه واستقام المعتركْ
وكأني بالشاعر والخطيب الهلالي المولود في مدينة النجف الأشرف عام
1951م يستوحي معناه من البيت (23) من قصيدة في (62) بيتاً بعنوان "بيضة
الإسلام" للشاعر العراقي الشيخ محسن أبو الحب الكبير المتوفى عام 1887م
وهو ينطق عن لسان الإمام الحسين(ع):
إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي يا سيوف خذيني
وهي من بحر الكامل الثاني ومطلعها:
إن كنتِ مشفقةً عليَّ دعيني *** مازال لومُك في الهوى يغريني
فالحياة الحقيقية ما كان فيها سُمُوُّ القيم وعلُوُّها، فإماتة
البدعة بعثٌ للأمة كما أن إحياء البدعة ممات للأمة وإن صعد في صدرها
نَفَسٌ أو نزل، وهكذا كان الإمام الحسين(ع) في نهضته وهكذا يكون من
يتمسح على أعتابه ويهتدي بهداه ويسلك مسلكه.
النصر المبين
قد يكون الحب مقارباً للولاء من حيثُ المؤدى، ولكن الثاني مقدم على
الأول رتبةً وعاقبةً من حيثُ التجسيدُ الفعليُّ، فحب الخير غير فعله
وتمثيله في الواقع المعاش وإن كان الحب بذاته حسنة، ومنتهى الحب الفعلي
للخير هو الولاء واتباع أهله، فهو النجاة والفوز في الدارين وإن
صاحَبَه الأذى، بل أن الوصول إلى الوردة العطرة وقطفها يمر عبر أشواكها،
فلا بد من تحمل الأذى في سبيل المحبوب الذي يمثل بابا إلى ولوج رياض
السعادة.
وهذا المعنى كثيرا ما تتلألأ حروفه في قوافي الشعراء وتمخر ألفاظه
في بحورهم، من هنا يقول الشاعر الهلالي في قصيدته الطائية الموسومة بـ
"عنوان المعارف" في خمسة عشر بيتاً، وهي من بحر الكامل:
وَعِشِ الحُسينَ مسيرةً ومبادئاً *** ورسالةً تُحيي الضَّميرَ
تبسُطا
وَرْداً به تُحَفُ العقولِ تَبَلْوَرَتْ *** عصماءَ فاعلةَ الحضورِ
توسّطا
ما فازَ مَن ركب الحياةَ بزهوها *** بل فازَ مَن في الآل شادَ وما
بَطا
وهذه حقيقة يؤكدها الهلالي في قصيدته الثائية الموسومة بـ "تسمو
البحوث" في عشرة أبيات وهي من بحر الوافر:
بسبْطِ مُحمدٍّ يَحْلُو حَديثُ *** ويرقى في معانيه المكوثُ
أجابوا في قوافيها وداداً *** لأخراهم به نعمَ المُغيثُ
حسينٌ حبُّهُ مَنجًى وفوزٌ *** تُشيِّدُهُ الروايةُ والحديثُ
وكأن الشاعر يذكرنا بأن النجاة في حب الحسين(ع) أمر مسلّم به بخاصة
وأن السنة النبوية الشريفة أكدت عليه في الكثير من الروايات، ومن ذلك
ما ورد في صحيح مسلم في الحديث رقم 4445 الوارد عن النبي(ص) في
الحسين(ع): (اللهم إني أحبه فأحبه واحبب من يحبه)، ومن يحبه الله
ورسوله فإن مآله لا محال إلى الجنان، بل إلى أرقاها، فقد جاء في مسند
أحمد بن حنبل في الحديث رقم 543 عن رسول الرحمة(ص): (من أحبَّني وأحبَّ
هذين – الحسن والحسين- وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة).
وهذا الحب والولاء نجدهما في قلب كل مسلم شرح الله صدره للإسلام بغض
النظر عن تقليده المذهبي في الفروع، ولهذا لا غرو أن يُيَمِّم الملايين
رحلهم نحو زيارة نبي الرحمة محمد بن عبد الله (ص) في المدينة
المشرَّفة، أو يقصدون زيارة الإمام الحسين(ع) في كربلاء المقدسة، ولا
عجب أن يتقاطر على القاهرة المحروسة الملايين من قرى مصر وغيطانها
ومدنها للاحتفال بمولد شريكة الحسين(ع) في نهضته المباركة السيدة
زينب(ع) أو في ذكرى الإمام الحسين(ع) نفسه، فليست الأعداد المليونية
حكرا على صاحب الرسالة في طيبة أو سبطه في الطف، فقد شهدت طرق القاهرة
المحيطة بمرقد السيدة زينب(ع) في 28/6/2011م قدوم مليوني محب وموالٍ
للاحتفال بيوم مولدها الميمون أو بما يُعرف بالليلة الكبرى وهو ما
أشارت إليه جريدة المساء المصرية بالعدد (19783) الصادر يوم الأربعاء
29/6/2011م في صفحة متابعات بقلم الصحافي ياسر النابي، وقد لمست هذا
الحب المفعم لأهل البيت عليهم السلام لدى زيارتي الأخيرة للقاهرة في
الفترة 19-25 حزيران 2011م أي قبل أيام من الليلة الكبرى فقد وجدت مرقد
السيدة زينب(ع) وعموم المنطقة عامرة بزوارها إلى الصباح الباكر، فقلب
القاهرة من المناطق القليلة في العالم التي لا تنام، وباتت الأعداد
المليونية تزحف كطيبة وكربلاء الى قاهرة الحب والولاء.
وهذه المودة لصاحب النهضة الحسينية ولمن شمَّر عن ساعد الجد
لتدوينها في موسوعة كبرى، لاح نجمها وبان سعدها في ديوان "الباقة
الوردية في الموسوعة الحسينية" المؤلفة قصائده من 477 بيتاً حسب الحروف
الهجائية الثمانية والعشرين تكررت في قافيتي الراء والياء فكانت ثلاثين
قصيدة ومقطوعة وهي في تقريظ دائرة المعارف الحسينية التي فاقت أجزاؤها
المطبوعة والمخطوطة الستمائة مجلد، ووجَدَت الموسوعة أن من حق الناظم
عليها أن تفرغ تقريظاته الولائية في ديوان مستقل، وهذا جزء من العرفان
بالجميل الذي تسديه الدائرة لمن يمد إليها يد الوصال والمحبة، ونعِمّا
هذا الخُلق الرهيف والعُرف اللطيف.
* إعلامي وباحث عراقي- الرأي الآخر للدراسات
بلندن
alrayalakhar@yahoo.co.uk |