شبكة النبأ: الكرامة الاقتصادية مصطلح
جميل في مظهره وجوهره، فهو يجذب بجمال معناه، كل من يسمعه أو يقرأه،
هذا من جانب، وهو كفيل ايضا بتحقيق الحياة السعيدة للانسان من جانب
آخر، ويتضح هذا الامر البديهي، من خلال ما تحققه الكرامة الاقتصادية
للامم والشعوب والافراد معا، اذا ما تمكنت الجهات المعنية الحكومية
وغيرها، أن تجعل من الكرامة الاقتصادية، منهجا حياتيا عمليا متعارَفا
عليه.
لذلك يرى الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني
الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه الثمين الموسوم بـ (لنبدأ من جديد)، أن
من أهم ما يجب الاهتمام به في تجديد الحياة لكل مسلم ومسلمة (الكرامة
الاقتصادية).
ومن دون أن يتحقق هذا الشرط، فإن الانسان - كجماعة أو كفرد- يكون
معرضا للمهانة والعوز، نتيجة لعدم تحقق الشروط المطلوبة، حيث يبقى بين
مطرقة الفقر، وسندان الحياة ومتطلباتها، من ناحية مواصلة العيش
ومستلزماته، ولهذا غالبا ما يربط الامام الشيرازي، بين قضية التجديد
على نحو عام، وبين شرط الكرامة الاقتصادية، وغالبا ما يبقى التجديد
غائبا او متعثرا، فيما لو تعذّر على الامة او الفرد، أن يرفق ذلك بشرط
الكرامة الاقتصادية.
وهذا لن يتحقق ما لم تكن هناك برمجة كاملة، وتخطيط دقيق وشامل،
لاستثمار الطاقات، ووضعها في مكانها المناسب، فكيف يمكن أن تصل الى
الكرامة في العيش والعمل، وأنت لا تعرف كيفية استثمار الطاقات التي
تمتلكها، هذان العنصران يرتبط احدهما بالآخر، بمعنى ليس هناك مجال
لتحقيق شرط الكرامة الاقتصادية، من دون الاستثمار الامثل للطاقات، لذا
يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (من أساليب الابتداء من
جديد: أن تجعل كل الطاقات في الاستثمار الأفضل).
وثمة عنصر ثالث يرتبط باستثمار الطاقات والكرامة الاقتصادية، وهو
مسألة تجديد الفكر واسلوب الحياة، فلا فائدة من أن تتطور ماديا على
حساب التطور الفكري المطلوب، أي لابد أن يكون هناك تساوق وتوازن بين
التطور في المجال المادي والاقتصادي عموما، وبين التطور الفكري
والثقافي وزيادة الوعي لعموم المجتمع، وفي حال تطور احدهما على حساب
الآخر، سيحدث اختلال في منظومة القيم لدى المجتمع، وسوف ترتبك الكثير
من العلاقات والاعراف والتقاليد السائدة، بين شرائح ومكونات المجتمع
كافة، ناهيك عن التذبذب بين النجاح والفشل، في كيفية استثمار الطاقات
المتوافرة، يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه نفسه:
(إن الطاقات قد تهدر كما هي العادة عند كثير من الناس، وقد تصرف
صرفاً ضعيفاً أو متوسطاً، وقد تصرف صرفاً قوياً).
ولهذا يُعدّ التطور الفكري المرافق للتطور المادي، شرط من شروط
النجاح في البناء المجتمعي الامثل، ويتطلب التطور الفكري، اشتغالا
متواصلا في عملية التحديث والتجديد، بنمط الافكار وتفعليها وتحريرها من
السكون والثبات، الذي يحرمها من مواكبة افكار العصر المتجددة، لذا فإن
الفكر الساكن لن يخدم اصحابه قط، يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص:
(إنّ أول ما يوجب التخلّف هو الفكر المنحط) لكن التطور والتحديث الفكري
يحتاج الى اجواء التحرر، من ربقة السكونية والثبات والتخوّف الدائم من
التجديد في الفكر والعمل معا، وكلما كانت اجواء الحرية متوافرة، كلما
كانت فرص التحديث الفكري أكثر حضورا، إذ أن هناك ربطا عضويا بين تجديد
الحياة وتجديد الفكر، وهذا التلاقح المتبادل يؤدي بالنتيجة الى استثمار
صحيح للطاقات، وهو ما يؤدي أيضا الى تحقيق الكرامة الاقتصادية، التي
تكفل للانسان، الجانب المادي المساند للجانب الفكري المتجدد.
لذا يؤكد الامام الشيرازي بوضوح قائلا في هذا الصدد بالكتاب نفسه:
(ينبغي على من يريد تجديد حياته وتقديم نفسه إلى الأمام، أن يجدد في
فكره أيضاً).
وفي هذه الحالة سيكون هناك توازن، بل وحالة تكامل بين الجانبين
المادي والفكري، وسوف يساعدان على صنع الفرص العملية المطلوبة، لتحقيق
الكرامة الاقتصادية، أما اذا حدث العكس، أي في حالة إهمال التجديد
الفكري، والتعويل على الثراء والجانب المادي، كما يحدث في بعض الدول
التي اهتمت مؤخرا بالبناء (فنادق ضخمة وناطحات سحاب وابراج وطرق) على
حساب التطور الفكري، فإن الخلل فيها يبدو واضحا، ولعل حالة اهدار
الحقوق الانسانية المرافقة للتطور المادي، دليل قاطع على غياب الموازنة
المطلوبة بين تحديث المادة والفكر في آن واحد، وفي وضع كهذا سوف تسود
حالة من القلق بين الناس، وقد تكون هناك حالات بطالة وعوز وتباين طبقي
بين الناس، وهذا ما يحذّر منه الامام الشيرازي، على ان الانسان في هذه
الحالة (يستبد به القلق الذي يجد سبيله إلى المترهلين والعاطلين ـ عامة
ـ دون غيرهم).
ولهذا لابد أن يكون هناك ربط بين المعاصرة، وبين عناصر التحديث في
الجانبين الفكري والمادي، أي لايصح فصل المعاصرة عن الفكر المحدث، ولا
عن العمل المنظَّم والمخطط له، ولابد أن يتم هذا التزاوج بين الفكر
والمادة في ظل اجواء الحرية، فلا نجاح في هذا المجال ما لم يتم توافر
اجواء الحرية مسبقا، بمعنى أن الفردية والدكتاتورية لن تسمح مطلقا
بتجديد الفكر ولا تحديث البناء المادي، ولهذا غالبا ما تفشل الدول التي
تقودها حكومات فردية، في مواكبة ما يحدث في العصر من مستجدات في
الجانبين المادي والفكري، وهذا ما يؤكد ايضا تهميش الكفاءات، والفشل
الواضح في استثمار الطاقات بالصيغة الامثل، وبالتالي غياب العمل
الانتاجي الامثل، يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه:
(إن العمل للحياة لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم تكن هناك حرية، لم يكن
ثمة عمل للحياة) ولن يتحقق هذا الامر من تلقاء نفسه، أي لابد أن يكون
هناك سعي مبرمج لتحقيق الاهداف المطلوبة، إضافة الى توافر الارادات
الجبارة التي يمكنها تحويل المطامح والتطلعات، الى فعل قائم على الارض،
وفي حالة غياب الارادة وغياب التخطيط والاستثمار الصحيح للطاقات، فإن
النتيجة تكون الفقر والجهل والضياع، والفشل الحكومي في ادارة الثروات
من اجل توظيفها لصالح الشعوب المتخلفة، لهذا يذكرنا الامام الشيرازي في
كتابه القيّم هذا، بالنتائج التي وصلت اليها بلاد المسلمين، بسبب عدم
سعيهم لمواكبة العصر حين يقول: (إن بلاد الإسلام وقعت ضحية التخلف
والفساد والجهل والمرض والفقر والفوضى والرذيلة).
وأن حكوماتها لم تقم بالادوار المطلوبة منها، لتحديث المجتمعات، من
خلال تحقيق الكرامة الاقتصادية بالتساوق مع تحديث الفكر وتطويره. |