وعي البديل الثقافي وبحيرة الصمغ

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: كم من الكتاب والشعراء والمبدعين عموما يمكنهم - بكلمة او جملة او مصطلح- أن يلفتوا نظر القارئ او المتلقي على وجه العموم ؟ وإذا كانت درجة لفت النظر للمتلقي كبيرة بحجمها كما ونوعا، فأين يكمن سبب هذا التفاعل والتأثير الذي لايكتفي بلمس السطوح، بل يغوص عميقا في العلاقة التبادلية بين المبدع – أياً كان مجال إبداعه- وبين المتلقي أياً كانت ميوله وتوجهاته ؟.

لقد صفعتني جملة (بحيرة الصمغ) لجمال جاسم أمين بشدة، وجعلتني - منذ أن قرأتها قبل عام- أشعر بأنني أتحرك في بحيرة من الصمغ فعلا، ولكم أن تقدروا مدى الاشمئزاز واليأس والغثيان الذي يصاحب كائنا لا يجد بداً من التحرك في بحيرة مقفلة بالصمغ ولا يجد مجالا آخر ينشط فيه فكريا وإنسانيا سوى هذا المحيط الصمغي المرير الذي أشّره أمين في كتابه الرؤيوي العملي المتميز والموسوم بـ (وعي التأسيس/ مكاشافات نقدية لتأصيل مشروع البديل الثقافي).

إن الصمغ يحيط بنا فعلا ولا أستثني أحدا من هذا التكبيل المؤسف، ويبدو أن جمال جاسم أمين على الرغم من ملاحظاته ومتابعاته للثقافة العراقية وتشرنقه مجبرا ببحيرة الصمغ الثقافية إلا أنه بقي فاعلا ومنتجا وباحثا عن مخارج التصحيح كونه ظل متواصلا في نشاطه الابداعي العضوي على مدى عقود، وحفر مكانه الواضح في المشهد الثقافي العراقي، فلم تكن أزمنة الأسى والقهر التي عَلَقَ فيها المبدعون العراقيون، ومنهم أمين، وهي أزمنة التكميم وصنع البحيرات الصمغية، بمراصد السلطة السياسية، لم تكن عائقا له بل دفعته الى البحث في ظاهرة (التصميغ) التي رافقت مجالات الثقافة وطبعتها بالزيف والتلكؤ والنكوص غالبا، سواء على مستوى الابداع في اجناس الادب كافة او في المجال النقدي الذي لم ينجو هو ايضا من الوقوع في بحيرة الصمغ نفسها.

يقول جمال جاسم أمين في مفتتح كتابه (وعي التأسيس): (في بلاد تنام على الزيت .. ولا زيت في مصابيحها. في بلاد يقضم أطفالها تفاحة طفولتهم بعمر أدرد. في بلاد نذرت أصابعَها للزناد لا للقلم. في كل هذا وذاك. أين يجلس المبدع أو المثقف؟.

ثمة محنة حقيقية يريد أن يقفز عليها البعض بتفاؤل زائف. ثمة انسداد في كل شيء. ثمة موت يزحف نحونا. وللأسف هنالك -حفارو قبور- يعتاشون على هذا الموت).

هذه الرؤية الملبدة بغيوم اليأس لم تأت اعتباطا، بل هي نتاج واقع ثقافي مأزوم منذ أن سلّطت السياسة سيفها المجنون على رقبة الثقافة، والكارثة دائما هناك معتاشون ومستفيدون من هذا الواقع المميت -كما يقول أمين- والكارثة الاخطر والأشد إيلاما أن هؤلاء المستفيدين محسوبون على المثقفين، بل تدل الوقائع أن لا فكاك منهم في ظل ثقافتنا الصمغية التي استساغت الزيف والتدليس في ظل سيادة السلطة القمعية لتستمر الى ما بعد 2003 هذا المفصل الزمني الذي تخيّل فيه المثقفون بل العراقيون جميعا بأنه لحظة الخلاص من بحيرة الصمغ والانتقال الى بحيرة النقاء، ليس فيما يتعلق بالمنظور الثقافي فحسب، بل الحياة العراقية بأكملها سوف تتخلص من الزيف السياسي والثقافي، وهو ما سيقود حتما الى صناعة مجتمع وبلد قوامه الحرية وغذاؤه الثقافة الأصيلة التي لاتحابي السلطان السياسي او سواه.

ولكن كيف سيتم ذلك ونحن لا نزال مكبلين ببحيرة الصمغ ؟ وهذا تحديدا ما دفع جمال جاسم أمين كي يبادر بتأسيس البديل الثقافي كمشروع يأتي بالنقاء رويدا محل الصمغ المعيق للتحرك نحو تأسيس وتطوير بديل ثقافي يضع حفاري القبور جانبا ويسحبهم الى حقيقة الفعل الثقافي الأصيل فيمنحهم أملا وعملا داعما لصناعة ثقافة قادرة على صناعة مجتمع جديد يضع خلف ظهره قرونا وعقودا من الزيف والنفاق.

تُرى أي حلم كبير هذا، وكيف استطاع هذا الشاعر (جمال جاسم امين) من ترويض الخيال ليهبط به قسرا الى ساحة الفعل الواقعي المنظّم عبر طرحه وتطويره للبديل الثقافي؟ إن شاعر (لا أحد بانتظار أحد) كان صوتا شعريا نافرا في زمن شح فيه الشعراء النافرون، وكان ابان الزمن المرير يطلق (سعاداته سيئة الصيت) من دون أن يتردد متعكزا على أصالة كانت ولا تزال تقوده الى الجوهر الثقافي الذي نحتاجه اليوم جميعا أكثر من حاجتنا له في أي زمن مضى.

ولهذا أرى بمشروعه (البديل الثقافي) نافذة لا يصح أن تغلق قط أو نساعد على غلقها تغاضيا أو أنانية او حسدا، ولا ينبغي التأني في التعامل معها ثقافيا، ولا يجوز أن ننظر لها على أنها محاولة لصنع المجد الشخصي، وهي النظرة التي غالبا ما تُرمى بها المشاريع الثقافية النافرة والحقيقية على ندرتها.

فصاحب هذا المشروع لايزال يطلق تساؤلاته المثيرة والصادقة منذ أن بدأت أنامله تداعب شذرات الشعر وتطرزها في فضاء الورقة، إنه يسأل وسيظل يسأل: (ما معنى ان نموت بلا مبرر/ ما معنى أن تموت الكلمات النافعة في زحام الكلمات الميتة/ وما معنى أن تصبح المنصات العالية.. منصات شتائم لامنصات قصائد؟). إنه يحاول أن يغيّر بحيرة الصمغ الى بحيرة نقاء وعلينا أن نقف معه ومع أنفسنا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/تموز/2011 - 3/شعبان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م