شبكة النبأ: العقول والمواهب، هي
وحدها القادرة على تشييد بيئة متقدمة، قادرة على استثمار حيوية
المجتمع، لكن العقل على الرغم من قدراته الهائلة، يحتاج الى مساعد
فعّال، ينظم عمله ويضيء له سبل التطور والازدهار، ذلك هو العلم.
فقد قال الامام علي عليه السلام في غرر الحكم: (العلم مصباح العقل
وينبوع الفضل)، وثمة المواهب الخلاقة التي تقف ايضا، الى جانب العقل
المتعلم، ممثلة بالعلماء والكفاءات المدرَّبة المتنوعة، فتجعله أكثر
قدرة على خلق بيئة التقدم التي يحتاجها المجتمع والدولة، من اجل مواكبة
العصر، واللحاق بالركب العالمي المتطور.
في كتابه القيّم الموسوم بـ (طريق التقدم)، يقول الامام الراحل، آية
الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) بهذا الخصوص:
(إن العلم في مقدمة العوامل التي تسبب تقدم الفرد، وبالتالي: تقدم
المجتمع، ومتى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول
علمائه واحتفوا بهم، إلاّ وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً).
ومن فضائل التأريخ، بشقيه الموغل بالقدم، او المنظور منه، أنه يقدم
للشعوب والامم، تجارب بعضها للبعض الآخر، فيجعلها أكثر قدرة واستعدادا
لعصرنة البيئة الانتاجية المتنوعة، في عموم الميادين التي تتوزع على
الاقتصاد، والسياسة، والتعليم، والصحة وما شابه، وهكذا تكون التجارب
الانسانية الناجحة، بخدمة التجارب الوليدة او الجديدة في أصقاع العالم
أجمع.
في هذا الصدد يذكر لنا الامام الشيرازي، بكتابه الثمين نفسه، تجربة
الشعب السويسري، ودور العلماء، والعقول، والمواهب، في تهيئة بيئة
التقدم ومقوماتها، من اجل النهوض، بالسقف الانتاجي عموما، كمّاً
ونوعاً، يقول الامام الشيرازي عن الشعب السويسري:
(إنهم لا يملكون معادن الثروة تحت الأرض، ولكنهم يملكون علماء فوق
أرضهم، يتقنون علم صنع الساعات اليدوية الممتازة وغيرها، فتقدمت بلادهم
وتقدم مجتمعهم بعلمائهم، بينما تأخرت البلاد التي تملك معادن الثروة
تحت الأرض ولايتبع أهلها علماءهم).
هذا المثال المستل من تجارب الشعوب والتأريخ معا، يوضّح لنا بجلاء
أهمية دور العلماء في عصرنة الحياة، من خلال التعامل الذكي، مع الموارد
المتوافرة، فإذا كانت الارض جدباء جافة، لا تحمل في بطونها المعادن
والثروات، فإن هناك ثروات تتحرك فوق الارض، وهي المواهب الخلاقة،
والعقول المبدعة للعلماء، وهذا ما حدث في سويسرا، وغيرها من الدول التي
اكتشفت سر التقنيات المعاصرة، ومنحت علماءها الفرصة للابداع، والعمل
على خلق بيئة التقدم المطلوبة.
المسلمون يملكون مساحات هائلة، من الارض الحبلى بخيرات الطبيعة
وثرواتها، ويملكون العلماء والكفاءات، لكن المشكلة تكمن في الحكام
وحكوماتهم، فهؤلاء على تقاطع شبه دائم مع العلماء والكفاءات، فإما
القتل او التشريد الى المنافي، وإما الاقصاء والتحييد التام، فتسود
بيئة التخلف، وتضمحل بيئة التقدم، ويكبو الشعب والامة والدولة، فيما
يؤكد الامام الشيرازي بكتابه المذكور على:
(أن العلم والعلماء، والوعي والثقافة، هو المقوم الأول في طريق
التقدم والرقي. وهكذا تقدم الغرب بعلمائه في مختلف المجالات على بلاد
المسلمين).
إنهم شعوب واعية، تصنع حكوماتها كما تريد، ولا تسمح للحكومات أن
تصنعها أو تتحكم بها، لهذا نجدها شعوبا فاعلة، عاملة ليل نهار، ومنتجة،
ومواكبة لمجريات العصر، يقول الامام علي عليه السلام، في غرر الحكم
أيضا: (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ
منهما).
هكذا ينبغي أن يكون السباق، بين الانسان والزمن، فطالما تمضي دقائق
الزمن من عمر الانسان وتقدمه وتطوره، فعليه أن يعي ذلك، ويسابق الزمن
بالانتاج الامثل، ولن يتحقق ذلك من دون صنع بيئة التقدم، ومقوماتها، من
خلال القضاء الكلي على الجهل، والامية، واللامبالاة، والاتكال، وغير
ذلك من مقومات بيئة التخلف وعلاماتها.
لذا يؤكد الامام الشيرازي قائلا في كتابه هذا:
(إن الجهل وعدم الوعي، وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من
أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى
موتها وفنائها).
ويضيف الامام قائلا ايضا:
(إن الاعتماد على التمني والاتكال على الأمنيات، ناتج من قلة الوعي،
أو فقدانه؛ لأن الإنسان الذي يعقل ويعي الأمور يعرف أن لكل شيء سبباً).
وهكذا يبدو الصراع واضحا، بين بيئتين وبين مقوماتهما، إنهما بيئة
التقدم ومقوماتها، وبيئة التخلف ومقوماتها، فالصراع بينهما يبدو شديدا
ومتواصلا، والنتيجة أن بيئة التخلف تكبو وتتراجع وتضمحل في الشعوب
المعاصرة، لتتفوق عليها بيئة التقدم، على عكس ما يحدث في الشعوب
والامم، التي لاتهتم بصناعة البيئة المطلوبة للتطور ومواكبة العصر.
وهذا ما يعلنه الامام الشيرازي (رحمه الله) بأسف شديد، حين يقول في
كتابه المذكور:
(للأسف نجد في يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم
والعلماء، وهم يحبون أن تتحقق الأمور بالأماني).
والذي يتخلى عن العلم والعلماء، في مجتمعاتنا المتلكئة، هم الحكام
وحكوماتهم التي لا تكتفي فقط بتهميش العلماء وإقصائهم، وتحييد العلم،
بل ترى فيهم خطرا، يتهدد مناصبهم، ومصالحهم التي تتقدم على العلم، وعلى
العلماء، بل وعلى مصالح الشعوب أجمع، وهذه هي الطامة الكبرى.
لذا لابد أن تعرف الحكومات التي تحكم الدول الاسلامية، بأن عداءها
للعلم والعلماء، يعني تدميرها لبيئة التقدم، وتعضيدها لبيئة التخلف مع
سبق الاصرار، وأن النتيجة المنطقية لهذه الاعمال، والاجراءات تنتهي
بإسقاط هذه الحكومات وحكامها، خاصة أن ملامح وسمات العصر الراهن، لم
تعد تقبل الشعوب الراكدة القارّة، ولا البيئات المتخلفة، في ظل تنوع
وسائل الاتصال، والاطلاع المباشر والمتواصل، على البيئات المتقدمة،
التي نهضت بالامم الفقيرة، وجعلتها في مصاف الامم المتقدمة، وخير دليل
لنا على ذلك، الهند التي اصبحت اليوم، من طلائع الامم المتطورة، بسبب
احترامها للعلم والعلماء. |