شبكة النبأ: عبرَ مؤلفاته الكثيرة ذات
الأثر الانساني البالغ، ترك لنا الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد
محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، إرثا علميا متعدد الجوانب
والاهتمامات، خدمة للمسلمين والانسانية جمعاء.
ومن بين مؤلفاته التي ضمت في بطونها أفكار الامام الاصلاحية العلمية
المتوقدة، كتابه القيّم الموسوم بـ (الفهم السياسي)، وقد تخصصت مضامينه
بالخوض في موضوعة السياسة، مفهوما ومشروعا إجرائيا لا غنى عنه، ليس
للدول والمجتمعات الكبيرة فحسب، إنما الافراد أيضا، لأنهم سواء في
تفكيرهم أو في تحركهم الفردي، لايستطعون الاستغناء عن معرفة السياسة،
والعمل وفق ما تقتضيه من أنشطة عملية وفكرية، لمعالجة الاخطاء، ودفع
الانسان والمجتمع درجة أعلى في سلم الارتقاء.
يقول أحد الكتاب في تعريفه للسياسة (إنها الإجراءات والطرق التي
تؤدي إلى اتخاذ قرارات من أجل المجموعات والمجتمعات البشرية. ومع أن
هذه الكلمة ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات فإن كلمة سياسة يمكن أن
تستخدم أيضا للدلالة على تسيير أمور أي جماعة وقيادتها ومعرفة كيفية
التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة والتفاعلات بين أفراد المجتمع
الواحد، بما في ذلك التجمعات الدينية والأكاديميات والمنظمات. أما
العلوم السياسية فهي دراسة السلوك السياسي وتفحص نواحي وتطبيقات هذه
الساسة واستخدام النفوذ، أي القدرة على فرض رغبات شخص ما على الآخرين).
لذا فالمهم هنا هو معرفة وفهم السياسة من لدن الجميع، سواء الافراد
او الجماعات، لأن فهم السياسة يؤدي بالنتيجة، الى تعميق الوعي الفردي
بالحريات والحقوق والواجبات ايضا.
يقول الامام الشيرازي، في تعريفه للفهم بصورة عامة (إنه الإدراك
والعلم والمعرفة. وواسطة هذه المعرفة والعلم هي العقل، أي إن الإنسان
بواسطة عقله يفهم الأشياء، ومن هذا الباب نجد أن بعض الناس الذين
يملكون عقلاً سليماً لهم نبوغ في مختلف مجالات الحياة؛ وذلك لرجاحة
عقلهم، وحسن تعاملهم مع القضايا والأحداث التي تدور حولهم، بينما نجد
البعض الآخر لا يمتلك هذه الخاصية –الفهم- أو المعرفة والفطنة، إما
لخلل عقلي، وهذا خارج عن إرادة الإنسان وإمكانه عادةً، أو لتقصير منه،
وذلك لعدم تحصيله للعلوم والمعارف ومعرفته بالأوضاع التي توصله إلى
الفهم والإدراك).
لهذا تبدو عملية عصرنة السياسة، خاضعة للجهد الفردي، فكلما كانت
الارادة الفردية مصممة متحفزة فاعلة، كلما كانت القدرة على تحديث
السياسة وعصرنتها أسرع وأدق في الوقت نفسه، واذا كان الجهد الفردي
مطلوبا في هذا الصدد، فإنه يخضع بالدرجة الاولى الى الاردة الفردية،
التي تدفع به الى الامام، وادراكها لمستجدات العصر، وفق مثابرة ومواكبة
فردية ، لذا يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص بكتابه نفسه:
(إذاً، بإمكان الإنسان أن يصبح فاهماً، وبإمكانه أن يكون كثير العلم
والإدراك، وذلك بجده واجتهاده، وأيضاً بيده أن يصبح أبلهاً أو بليداً
أو شخصاً عادياً لا يهتم ولا يعي لما يجري حوله من القضايا والأحداث).
ولكن قد يتردد اللافراد من مجاراة الفهم السياسي، وينؤون بأنفسهم عن
دخول المعترك السياسي، لأسباب عديدة، منها تصوّر الفرد بأن السياسة علم
يصعب فهمه والتعامل معه، وربما يتحاشى البعض مخاطر السياسة وثمة اسباب
اخرى، لكن على العموم، السياسة كمفهوم وفعل يتحرك في ميادين الحياة،
ليس مفهوما أو نشاطا مستحدثا، إذ يقول الامام الشيرازي بهذا الصدد:
إن (السياسة ليست من العلوم الحديثة، بل لعلها وجدت بوجود الإنسان
في هذه المعمورة، وبواسطتها ينظم الإنسان حياته) واذا كانت السياسة
تنظم حياة الفرد والمجتمع، فكيف يمكنه التخلي عنها وعدم التعاطي معها
او فهم دهاليزها وخفاياها وأسرارها؟!، إننا فعلا لابد أن نتحلى بروح
الجرأة والاقدام، لخوض غمار السياسة وتحصيل الفهم السياسي، ليس فهما
مجردا، وإنما فهما مقرونا بالقدرة على العمل والعطاء المتجدد، والسبب
هو عدم منح الفرصة لحثالة المجتمع، بالقفز الى العروش، ومن ثم التحكم
بمصائر الناس، ليتحول الحاكم الى دكتاتور أحمق، تقوده غرائزه وذاته
المريضة المتضخمة، الى ذبح الناس العزّل، والتجاوز المعيب على حقوقهم.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (إن الحصول على
الفهم السياسي لا يحتاج إلى جهد كثير، ولكن المسلمين ـ على الأخص رجال
الدين ـ تركوا العمل بها واعتبروا السياسة من شؤون الدولة المتسلطة
وليست من شؤون الدين، وهذا من أهم أسباب عدم وجود الفهم السياسي
بالمقدار الكافي في أوساط المسلمين، حيث تصور البعض أن السياسة هي شأن
الطغاة حفاظاً على الحياة الدنيا).
من هنا كانت السياسة ولا تزال وستبقى، مضمارا مهما ينبغي على الفرد
أن يتقنه جيدا، ويتعامل معه ويفهم أسراره، والسبب كما يراه الامام
الشيرازي في الكتاب المذكور نفسه: ان (كل إنسان يحتاج إلى السياسة، وفي
جميع المجالات، سياسة مع نفسه، سياسة في تعامله وتعايشه مع عائلته،
سياسة مع صديقه، سياسة مع عدوه، وسياسة مع جميع أفراد المجتمع. ومن هذا
الباب، فإن أغلب الناس سياسيون، ولكن بدرجات متفاوتة).
بهذا نكون بأمس الحاجة لتحديث العمل السياسي، من خلال فهمه أولا،
دراسة وأفعالا قائمة على الارض، ويتم ذلك للفرد او الجماعة، من خلال
النظر الى السياسة كمفهوم معاصر، لا ينبغي غض الطرف عنه او تحاشيه،
لأنه المرآة التي يراى فيها الفرد والجماعة حقوقهم المستلَبة من قبل
الحكام الطغاة او الحكومات التي لاترعى الناس، ولا تهتم إلا بمصالحها
وحماية عروشها، من السقوط، نتيجة لافعالها المصلحية البحتة، كما حدث
ويحدث الآن في معظم دول الشرق الاوسط.
فلابد أن الفهم السياسي المعاصر، كان الدافع الاول لتحريك
الانتفاضات العربية في تونس ومصر والبحرين والمغرب وسواها، وبهذا
المعنى فإننا نحتاج الى التعامل بدقة واستمرار مع السياسة، ليس بمعنى
خوضها عمليا، من خلال المناصب كوزراء او محافظين او مدراء عامين وما
شابه، بل بمعنى الفهم الفردي والجمعي الذي يساعدنا على حماية حقوقنا
المدنية، بعد فهما تماما، ومن ثم المطالبة المتواصلة بها، بأصوات الحق
التي تعرف حرياتها المستلبة، ولايتم ذلك كما يرى الامام الشيرازي، إلا
بعد تحصيل الوعي، والتثقيف السياسي الكافي، كما ورد في كتابه القيّم
نفسه، إذ يقول –رحمه الله-: (من أهم مقومات الفهم السياسي هو: التثقيف
والتوعية، وهي إحدى الأسس الرئيسية لنهضة الأمة الإسلامية، وترسيخ
مبادئها وتطبيقها على أرض الواقع بشكل تام وصحيح). |