لو إن الكلاب تؤدي أعمال الإنسان

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الكلب كما يخبرنا (فيليب سيرنج) في كتابه (الرموز في الفن – الاديان – الحياة) هو الشكل الذي يتقمصه الآله (انوبيس) عند المصريين.. وفي الفن الأيقوني المسيحي يساعد الكلب لمماثلة (سنت روش) الذي كان غالبا ما يرتدي اضافة لذلك ثوب الحاج القديس جاك ومظهرا جنبه العاري المصاب بقرحة طاعون، او حتى ان الحيوان كان يلعق الجرح.

والكلب رمز الوفاء ولهذا السبب فان لشاهدات قبور الاساقفة التي تعود بتاريخها الى القرون الوسطى ارجل موضوعة على كلب.. ولكن الكلب المصاحب تمثالا لرجل مضطجع او إمرأة، هو بالنسبة لرجل عادي رمزا للصيد، اذن للنبالة.

وعند شعوب السلت كان الكلب على الأغلب (حيوان الموتى) وما زال يعرف حتى يومنا في الخرافات الايرلندية بالشيطان، بل بمفترس الجيف.. وهو أيضا رمز النقود الاغريقية القديمة لجزيرة (كيا).. ويجدر القاء الشيء الغير المفيد والخالي من القيمة الى الكلاب.. ومات كالكلب يعني مات بتعاسة.

في الأدب العربي هناك رسالة طريفة لكنها مليئة بالحكمة في نفس الوقت حملت عنوان (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لمحمد بن المرزبان المتوفى سنة (309 هجري).

جمع فيها المؤلف فضائل الكلاب المعروفة وقتها، قبل ان يتطور العلم ويكتشف فضائل اخرى، وجمع أيضا رذائل البشر وما يصدر عنهم من سلوكيات نافرة.. لا تنسجم مع ما خلق الانسان له وما اودع فيه.

في مقدمة الرسالة نقرأ: (ذكرت أعزك الله زماننا هذا وفساد مودة أهله وخسة أخلاقهم ولؤم طباعهم وأن أبعد الناس سفرا من كان سفره في طلب أخ صالح ومن حاول صاحبا يأمن زلته ويدوم اغتباطه كان كصاحب الطريق الحيران الذي لا يزداد لنفسه إتعابا ألا ازداد من غايته بعدا فالأمر كما وصفت وقد يروي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكا لا ورق فيه وقال بعضهم كنا نخاف على الأخوان كثرة المواعيد وشدة الاعتذار أن يخلطوا واعيدهم بالكذب واعتذارهم بالتزيد فذهب اليوم من يعتذر بالخير ومات من كان يعتذر من الذنب).

ثم يذكر جملة من الاشعار والحكايات للتاكيد على ما ذهب إليه في عنوانه.. قال لبيد

ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب 

وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعرف 

وما كل من تهوى يحبك قلبه ولا كل من صاحبته لك منصف 

وقال آخر..

ذهب الناس وانقضت دولة المجد فكل إلا القليل كلاب 

إن من لم يكن على الناس ذئبا أكلته في ذا الزمان الذئاب 

غير أن الوجوه في صور الناس وأبدانهم عليها الثياب 

لست تلقى إلا كذوبا بخيلا بين عينيه للأياس كتاب 

وقال الأحنف بن قيس :إذا بصبص الكلب لك فثق ببصبصته. ولا تثق ببصابص الناس: فرب مبصبص خوٌان.

وقال الشعبي: خير خصلة في الكلب أنه لا ينافق في محبته. وقال ابن عباس:كلب أمين خير من إنسان خؤون.

مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فوجد قتيل بالطريق فسأل، من قتل هذا؟ قالوا يا رسول الله إن الرجل سطا على غنم بني زهرة فخرج عليه كلب الغنم فقتله، حينئذ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق القتيل ثلاث كلمات يجب أن تكون تذكرة تعيها أذن واعية (قتل نفسه و أضاع ديته و كان الكلب خيراً منه).

والكلب يحافظ على حرمات صاحبه، و يرعى كل أمر يهمه، فقد كان للحسن بن مالك القنوي إخوان وندماء، فأفسد بعضهم حرمته في أهله، وكان للحسن على باب داره كلب قد رباه، فجاء الرجل يوماً في غياب الحسن إلى منزله، فدخل إلى امرأته، فقالت له: قد بعد فهل لك في جلسة يسر بعضنا ببعض فيها؟ فقال: نعم فأكلا وشربا، ووقع منهما الشر، ورأى الكلب ذلك، فوثب عليهما فقتلهما,, فلما جاء الحسن و رآهما على تلك الحال، تبين ما فعلا، فأنشد يقول:

أضحى خليلي بعد صَفو مودّتي صريعاً بداء الذّلّ أسلمه الغدر

وطأ حُرمتي بعد الإخاء وخانني فغادره كلبي و قد ضمّه القبر

و كان الكلب خيرا منه، و كان الكلب خيرا منها.

في الثقافة الشعبية يحضر الكلب كثيرا في قاموس الشتائم، فهو (كلب ابن كلب) وتلك شتيمة قاسية جدا يراد بها تحقير المشتوم، على الرغم من فضائل الكلب التي ذكرنا.

وايضا المثل الذي يقول في وصف ميتة احدهم (مات مثل موتت الكلب) في تشابه مع ما اورده صاحب كتاب الرموز من ثقافات اخرى.

في حياتنا الحاضرة، لا يمر يوم الا وكان للكلاب حضور في وسائل الاعلام والاخبار المتناقلة.. احد اعضاء مجلس العموم البريطاني يهدد باللجوء الى فقرة خاصة بحقوق الانسان تتعلق بالخصوصية حين طلب منه عدم ادخال كلبه الى مبنى البرلمان.

ورجل أميركي يرفع دعوى قضائية ضد حبيبته السابقة يطالبها فيها بتعويض بقيمة 11 مليون دولار بسبب الاضطراب العاطفي الذي عانى منه بعد أن أخذت كلبهما حين انفصلت عنه.

فقد ذكرت صحيفة (نيويورك بوست) أن إليش جوكيرا (36 عاماً) رفع دعوى أمام المحكمة العليا في نيويورك ضد حبيبته السابقة كارلا بيمنتال (29 عاماً) يطالبها فيها بوصاية مشتركة على كلبهما (غوابو) وبتعويض بقيمة 11 مليون دولار لأنه عانى من اضطرابات عاطفية بغياب الكلب.

وقال جوكيرا إنه يشتاق إلى الكلب في كل يوم و(في بعض الأحيان أتكلم إلى نفسي وأتخيل أنني أتكلم معه، وأنا أحب ذلك الكلب وأعرف أنني أستطيع الاهتمام به أفضل منها).

وفي العراق تسبب غياب كلب متخصص بتفتيش الداخلين الى المنطقة الخضراء وسط بغداد نتيجة انتهاء عقد عمله بحرمان الصحفيين من دخول مبنى البرلمان،كما حرم بعض الموظفين من ادخال وجبات طعام اعتادوا على جلبها معهم من منازلهم.

وقال موظف في المنطقة (فوجئنا بمنع ادخال الطعام او اي شيء من قبل حراس احدى بوابات المنطقة الخضراء باستثناء اجهزة الهاتف النقال بسبب غياب كلب متخصص بتفتيش هذه الحاجات بعد انتهاء عقد مبرم مع شركة امنية اجنبيه تمتلكه). واضاف (سمح للموظفين بالدخول عبر بوابة المنطقة الخضراء بعد تفتيشهم يدويا فيما تم حجز جميع الحاجات والمقتنيات التي كانوا يحملونها باستثناء اجهزة الموبايل).

تخيلت هذا الكلب الرابض عند مداخل احد البوابات للمنطقة الخضراء، وهو يقوم بعمله صيفا وشتاءا دون تذمر، وتساءلت : هل استطاع احدهم تقديم رشوة اليه لغرض ادخال مادة ممنوعة؟ وكيف سيكون شكل هذه الرشوة؟ هل هي عبارة عن مجموعة من العظام؟ ام كيلو من اللحم الشرائح؟ ام وجبة خاصة بالكلاب المدربة الخالية من الدهون والمواد العضوية وغير منتهية الصلاحية؟ ام ان الرشوة ستكون لصاحب الكلب ومرافقه وتكون عبارة عن رزمة من الاوراق الخضراء (دولار) او ابو العشرة او ربما ام الخمس وعشرون او ربما عقد مشروع مقاولات؟ ما هو موقف الكلب من هذه الرشوة المقدمة له او لصاحبه؟

هل سيتناولها ويسكت ويمرر ما يراد ادخاله ام انه سياكلها ويمانع في ذلك؟ وما هو موقفه من صاحبه اذا حاول اجباره على شيء من هذا القبيل؟

اسئلة كثيرة خطرت في بالي وانا اقرأ خبر هذا الكلب الذي تسبب بهذا المنع والارباك.

واطرح سؤالا اخر اختم به موضوعي... لو اننا استبدلنا جميع العاملين في سلك الوظائف العامة في الدولة العراقية بكلاب مدربة على القيام باعمالهم وتأدية وظائفهم،هل سنسمع عن فساد اداري او مالي وعن سرقات واختلاسات للمال العام بمليارات الدنانير او الدولارات؟ وهل سنسمع عن الروتين وتاخير المعاملات لان المدير لم يحضر، او ان الموظف المختص متعكر المزاج، او ان مجموعة الموظفين يتناولون فطورهم في ساعات العمل، او يتبادلون الاحاديث عن السلف والزيادات في الرواتب وغيرها من امور الحياة الاخرى؟

لو ان الكلاب تستطيع ان تفعل ما يفعله الانسان وان تقوم باعماله العديدة لما سمعنا شيئا من ذلك نظرا لطبيعة الكلاب التي ضمنها المؤلف المار ذكره في رسالته.. لكنني اخشى ان يعلمه يعلمه الآخرون قبل تسليم وظائفه اليه كل ما يعرفونه عن طرق الرشوة والاختلاس والفساد ونكون قد خسرنا الكلاب وقيم الوفاء التي عرفناها عنها.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/حزيران/2011 - 22/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م