صنع في العراق

عباس عبود سالم-القاهرة

يقول اوساهيرا ابو الصناعة اليابانية ان حلمه كان ان يلمس محركا ويتعرف على اجزائه، وتمكن من تحقيق حلمه اثناء دراسته للدكتوراة في المانيا، حيث دفع مدخراته لشراء محرك من معرض صناعي ايطالي اقيم في مدينة ميونخ، ويقول ساهيرا "دفعت المبلغ وحملت المحرك وقد كان ثقيلا الى حجرتي ،ووضعته على المنضدة, قلت في نفسي ان هذا هو سر تقدم اوربا، لو استطعت صنع واحد مثله لغيرت تاريخ اليابان".

 وتمكن ساهيرا بعد عناء طويل من تفكيك المحرك واعادة تركيبة بعد رسم اجزائه قطعة قطعة، وبعد 15 عام من الجهد المتواصل والعمل في الورش والمصاهر، دشن اوساهيرا اول صناعة للمحركات في اليابان لتلتحق بركب الثورة الصناعية في اوربا.

والثورة الصناعية هي اهم الثورات الانسانية على الاطلاق، اهم من الثورات ذات الطابع السياسي التي اسقطت ملكا، ونصبت رئيسا، او ازالت حزبا، وجلبت حزبا آخر، لان الثورة الصناعية لم تسقط الا ظلام العصور الوسطى، لتنصب محله نور الحضارة التي نعيش من نعيمها الان، وتعيش الدول الصناعية الكبرى من عائداتها التي وفرت لشعوبها رفاهية لامثيل لها، فالصناعة هي اساس الحضارة المعاصرة، ومفتاح لكل المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية.

وليس من العبث ان يبلغ مستوى تمويل البحث العلمي في الدول المتقدمة، درجات ومستويات لم يبلغها في اي عصر من العصور، اضافة الى ذلك فأن المقياس العام لتقدم الدول لايتم وفق طبيعة النظام السياسي، من حيث وجود برلمان، او تعددية، او مجالس منتخبة او غير منتخبة بل يقاس من خلال صناعتها المتطورة.

اقول هذا ومازالت وزارة الصناعة لدينا وزارة ثانوية لاتوضع ضمن حسابات الكبار، ومازالت صورة مبنى وزارة الصناعة لدينا وهو محاط بالنفايات والمطبات والاسيجة المهملة لاتفارق ذاكرتي، ويكاد من يتطلع اليه يفهم ان المبني يرثي نفسه، ويرثي حال الصناعة في بلاد سبقت الانسانية الى اختراع العجلة ودولاب الفخار قبل الاف السنين.

ويجب ان لاننسى ان للعراق تاريخ صناعي مشرف منذ بداية القرن العشرين، حيث بداية بعض الصناعات البسيطة، الى ان قامت اسس صناعة متطورة في العراق بعد الحرب العالمية الثانية، بمبادرة من مجلس الاعمار، وتم أنشاء مصانع ضخمة مثل معمل السكر، ومعمل النسيج في الموصل، وشركة الزيوت النباتية، وشركة الاسمنت العراقية بفروعهما المختلفة، وقام رجال الصناعة العراقية من امثال نوري فتاح باشا، وصالح افندي، ومحمد حديد، وخدوري خدوري بانشاء مشروعات صناعية مهمة بتشجيع من الدولة مثل معمل نسيج فتاح باشا الشهير.

واستمر التطور الصناعي العراقي فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي حاول الاستفادة من العلاقات المتطورة مع الاتحاد السوفيتي، فوسع القاعدة الصناعية، واهتم بتدريب العاملين في موسكو، فتم انشاء عدد من المصانع وتوزيعها جغرافيا على مختلف مناطق العراق، وكذلك انشاء مجمعات سكنية قريبة من هذه المصانع الكبرى، مثل مصانع المعدات الزراعية، ومصانع الزجاج في الرمادي، ومصانع الالبسة الجاهزة في بغداد والكوت، ومصانع الادوية في سامراء، والتعليب في كربلاء، اضافة الى انشاء شركة الصناعات الخفيفة بمساهمة مختلطة.

وفي سبيعنات وثمانينات القرن الماضي كانت الصناعات الكهربائية، والالكترونية العراقية من الصناعات الرائدة والمتطورة في المنطقة، فمن منا لايتذكر تلفزيون القيثارة، وثلاجة عشتار، وحاسبات الوركاء، ومبردة الهلال، والاسمنت العراقي المقاوم والعادي، والزيوت النباتية زبيدة والراعي، والبطانيات والالبسة الجاهزة، والسكائر العراقية سومر التي حازت على الجائزة الذهبية في ثمانينات القرن الماضي من بين افضل انواع السكائر في العالم وذاع صيتها في حينه، وكذلك الجرارات الزراعية عنتر، والسيارات ريم وسكانيا عراق، وغيرها من المكائن والاسمدة والبتروكيمياويات، والحديد والصلب والمعدات الاخرى.

 وكانت كلمة MADE IN IRAQ او صنع في العراق محل فخر وتطلع الى المستقبل ونافذة لصنع كوادر فنية انجبتها عشرات المعاهد الفنية التي انتشرت في محافظات العراق، اضافة الى الكوادر الهندسية التي تتخرج سنويا من الاقسام العلمية والهندسية في الجامعات، والجامعة التكنولوجية بشكل خاص.

لكن ماحصل من احداث سياسية وعسكرية مثل الحرب العراقية الايرانية، وازمة الكويت، والحصار الدولي على العراق نتيجة السياسات الخاطئة، اسهم في ايقاف عجلة الصناعة في العراق الذي تضاعف عدد سكانه ثلاث اضعاف.

 واليوم يجد العراق نفسه معتمدا كليا على عائدات النفط لتغذية متطلباته الاقتصادية، ومعتمدا على الصناعة الصينية، والمصرية، والسورية، والايرانية، والتركية وبعض المناشيء الاخرى التي اغرقت السوق والغت الصناعة العراقية التي انصرفت الى التجارة، والغش الصناعي، وصناعات بدائية اخرى.

والاهم ان خصخصة الصناعة هو العامل المدمر الذي تسبب في موت الصناعة العراقية، لانه تم بصورة متعجلة دون دراسات متانية ورؤية مستقبلية متعقلة، فكم من عراقي تمكن من تفكيك محرك مثل الذي فككه اوساهيرا الياباني.

 لكن دوران المحرك العراقي لم يقابل بعاصفة من التصفيق، ولم يغير تاريخ العراق مثلما غير تاريخ اليابان، مادامت عبارة صنع في العراق لاتهز مشاعر الكثيرين، ولا تمثل لديهم الا شعار مرحلي، او سلاح انتخابي يحب اسقاطه من ايدي الاخرين.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 23/حزيران/2011 - 20/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م