العراق بحاجه الى بائع متجول!

محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: لم يدرك يوما البائع التونسي المتجول بوعزيزي إن موته سيطيح بأعتى الديكتاتوريات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط بهذا الشكل المدهش، حيث كان الاهتمام بعربته ابرز ما يحرص عليه، كونها كانت تمثل له مصدر الخبز والكرامة على حد سواء. مما دفعه الى اختيار الموت على ان تفرق الشرطية التي صفعته بينه وبين تلك العربة الخشبية، فيما كانت السياسة وإرهاصاتها ابعد ما يكون عن آخر هموم ذلك الشاب، على الرغم من اعتباره بعد ذلك رمز ثورة الياسمين، ولتهب بفضله رياح التغيير العربي وما أسفر عنها.

ومن شوارع تونس... الى شوارع اسطنبول بفارق زمني ليس بكبير، كان بائع خبز يتجول في أزقة عاصمة أتاتورك وهو يرمق بصمت ما آلت له بلاده من تردِ بائس للأوضاع، دون ان تفارق مرمى بصره أينما حل، مظاهر العسكر الذين قادوا تركيا الى أسوأ عهودها، وتسببوا بانحدار سياسي واقتصادي واجتماعي مستمر، وما واكب ذلك من غياب شبه مطلق لمعظم الحريات العامة.

وكما كان القدر يخبئ للبائع التونسي أن يكون رمزا للثورات العربية، وسببا في إنعتاق أبناء جلدته من براثن الديكتاتورية، خبّأ القدر لبائع الخبز البسيط رجب طيب اردوغان قائدا للإصلاح الشامل في تركيا بعد أن شاءت الصدف أن يكون في أعلى هرم السلطة... دافعا من خلال سياسياته الرشيدة الجيش التركي الى الانزواء بعيدا، ممهدا لبلده مناخا اقتصاديا مستقرا، وريادة سياسية في المنطقة والعالم... كانت بعيدة المنال عن الدولة المريضة قبل سنوات قليلة.

في العراق... هذه الدولة التي دفع شعبها ثمنا باهضا ولا يزال في سبيل الوصول الى ما تحقق في تلك الدولتين، يكثر البائعة المتجولون، وهم بالآلاف يجوبون مدن العراق وقصباته في كل يوم طلبا لمصدر الرزق. وهم يتطلعون بحسرة الى ما آلت إليه ديمقراطيتهم الموعودة من أوضاع محبطة، في ظل الانقسام السياسي والصراع المستمر على السلطة، فيما يضفي اقتصاد الدولة الأعرج الى معاناة مكونات مواطني هذا البلد ضنكا على أوضاعهم المعيشية، مع استمرار نقص الخدمات الفادح، والانقسامات السياسية التي تطفو على مشهد البلاد بين الفينة والأخرى.

وتعزو الحكومة العراقية حديثة التشكيل البطء الكبير في تحسين الخدمات الى تراكمات المرحلة السابقة، وما شابها من أحداث ساعدت على انهيار معظم أجزاء البنى التحتية، فضلا عن وجود فساد إداري ومالي موروث يصعب استئصاله خلال فترة قصيرة.

كما يتهم بعض المقربين من السلطة أطرافا سياسية عملت ولا تزال في سبيل عرقلة جهود الحكومة على الصعيد المحلي والدولي، في ردهم على ما ترمى به الحكومة بالفشل المستمر.

وبين تلك التجاذبات الشارخة باتت الإرادة الشعبية تعاني استنزافا دائما أجهض طبيعة الحراك الايجابي، ليستعاض عنه بشكل دراماتيكي صمت إيحائي باليأس، خلف شعورا متفاقما بعبثية اي جهد في سبيل الإصلاح على المدى القريب.

السؤال الذي يطرح نفسه... هل بات العراق بحاجه الى مصلح؟ وان برزت إحدى الشخصيات بهذا الدور فهل ستتمكن من كبح جماح الصراعات السياسية وتنأى بنفسها وحكومتها عن الاتهامات الطائفية والقومية؟

يرى البعض أن هذا أصعب من ان يتحقق، سيما إن مفهوم الوطنية بات بحسب الكثيرين في الترتيب الثاني لدى بعض مكونات الشعب العراقي، لأسباب يدركها الجميع. ومما يعزز تلك الفرضية وهي استحالة تبوء أي شخصية من هذا الطراز القيادة هو النظام البرلماني، الذي يعد فلترا يرشح الرئاسات الثلاث حسب قناعات أعضائه، وليس عبر الانتخابات المباشرة كما هو الحال في الأنظمة الرئاسية لبعض الدول.

فيما يؤكد البعض أن إصلاح النظام ليس معجزة بعيدة المنال، خصوصا أن بعض الأطراف السياسية طالبت في وقت مسبق اللجوء الى النظام الرئاسي، قد يمكن من تقويم المسار الديمقراطي، والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ويؤمن للبلاد النهوض بمشاريعها التنموية بشكل مسرع.

أخيرا... وليس آخرا، يتحتم على العراق بسياسييه ونخبه المثقفة ومواطنيه أيضا وقفة للمراجعة، في مختلف شؤونهم ذات الصلة بتحسين واقعهم المحلي والخارجي، لتلافي ما يشوه العملية الديمقراطية الناشئة، وإلا عليهم البحث في أوساط الباعة المتجولين عن مصلح ينقذهم مما أوقعوا أنفسهم به، بشرط أن يكون على مقاس اردوغان وليس شبيها بعزة الدوري.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/حزيران/2011 - 19/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م