المثقف الانفعالي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: أثارت الكتابة عن المثقف، بركة أفكار تقرّ في أعماقي منذ سنوات بعيدة، لذلك بدأت قبل عام من الآن، بالكتابة عن المثقف المستنسَخ والمثقف الأصل، ولم أعرف في حينها أن ذلك المقال الاول سيقودني الى سلسلة مقالات عن الثقافة والمثقفين، وهو أمر يبدو مشجِّعا ومحبِطا في آن، فحين تكتب عن المثقفين وأنواعهم ومساراتهم وكأنك تسير في حقل ثقافي معرفي ملبَّد بالغموض، أما الكتابة عن شؤون وشجون الثقافة فلا تقل صعوبة عن ذلك، لكنني أشعر أن لا مناص من المواصلة في كل الحالات والنتائج.

هذه التوطئة تقودني الى التصريح والتساؤل عن نوع من المثقفين يعيش ويتحرك بيننا، إنه المثقف الانفعالي، تُرى من هو هذا المثقف، وهل هو نوع أو توجّه ثقافي له ملامح تشير إليه حصرا، وهل هو موجود فعلا في الساحة، يتحرك وينشط، يؤثر ويتأثر، ثم هل يمكن توصيفه بوضوح؟ ربما يمكن وضع بعض اللمسات في هذا الصدد من وجهة نظر شخصية.

ما أعنيه بهذا النوع من المثقفين، هو المثقف الذي يفتقد للرؤية الخاصة، نتيجة لفقدانه الشخصية الثقافية المستقلة، ومن الواضح أن المثقف الانفعالي، منفعل على الدوام، عاطفي أكثر من الحد المسموح، تحركه الكلمات والاخبار والافكار كيفما تشاء هي، وليس كيفما يشاء هو، إنه باختصار مثقف تابع يفتقد للرؤية والرأي الخاص في آن واحد. وغالبا ما يكون المثقف الانفعالي عبءاً على الساحة الثقافية، فهو كما يُقال ينعق مع الناعقين، وفي ظل الحكومات القمعية تجد سوقه رائجة، فهو من أفضل الابواق التي تصدح في صالح النظام القمعي، حتى لو كان مختلفا عن المثقف السلطوي الذي يعرف ماذا يفعل وماذا يريد وما هي النتائج التي سيحصل عليها، فكما قلنا أن المثقف الانفعالي قد يصطف مع المسار الخاطئ من دون أن يقصد ذلك، ولكنه أصبح من المثقفين الخطّائين نتيجة لانفعاله وعاطفته المتعجلة التي غالبا ما تقوده الى رؤية ليست رؤيته ومسار ليس مساره، ولايقع ضمن ختياراته الشخصية.

وبهذا فإن هذا النوع من المثقفين، يفقد فرصة المشاركة في عملية التأسيس والتطوير لثقافة معاصرة تواكب المستجدات العالمية في هذا المضمار الهام، فالمثقف هو مؤسس وعي ومؤسس ثقافة، وهو أيضا أداة فاعلة وسبّاقة، إن لم تكن الاهم من بين جميع الادوات الانسانية والوسائل الهادفة الى تطوير الوعي المجتمعي، وهذه المهمة والمكانة التي تُعدّ من العيار الثقيل، لا تُمنح لغير المثقفين، فكيف والحال إذا كان المثقف منفعلا متسرعا ومُقادا في آن، إذ تؤثر فيه المواقف المفبركة والاخبار المنمقة، ويتلاعب به الاعلام الموجَّه كيفما يشاء، نتيجة لعاطفته المتسرعة، ولفقدانه الرؤية المستقلة، التي تحميه من الانجرار والسقوط في حبائل الرؤى المغرضة والمعدّة سلفا، لدعم المسارات الخاطئة، سواء كانت سياسية او فكرية او غيرها.

إن المثقف الانفعالي نقيض للمثقف الأصل، المبادر، الفاعل، الحيوي، المستقل الذي يمتلك خارطة طريق ثقافية، عملية، فلسفية، رسالية، تتوغل رويدا في المكون المجتمعي، وتساعده على العيش بطريقة لائقة وفقا لمنظومة سلوكية فكرية راقية، تنتجها ثقافة معاصرة، أسهم في تشذيبها وتطويرها مثقفون لا إنفعاليون.

لذلك غالبا ما يُحرم المثقف الانفعالي من فرص المشاركة في التحليل الصائب، وبلورة الرؤية المستقلة لدعم الحقائق الصحيحة، وهذا تحديدا ما يجعل منه غير مرغوب به، إلا في حالة تزييف الحقائق وتوجيه المسارات الثقافية وسواها نحو اتجاهات منحرفة، والسبب دائما وكما هو واضح، عاطفة متسرعة، غالبا ما تقلب الحقائق وفقا لما تراه، أو وفقا لما ينسجم مع رؤيتها الناقصة.

من هنا يمكن أن نشبّه المثقف الانفعالي بأنه عبارة عن آلة صماء، تردد ما يقوله الغير، وترى ما يراه الغير، تحت تأثير التسرع العاطفي وهشاشة الاستقلال الفكري والشخصي في آن، لذا فإن هذا الدور الببغائي للمثقف الانفعالي لا يمكن الخلاص منه، بل إنه يشكل الجوهر الأوضح الذي يفرز هذا النوع من المثقفين عن غيرهم، ولهذا السبب يبدو التأثير الاعلامي جليا على مثل هؤلاء، فهم منساقون في الغالب وراء أقوال وآراء وتحليلات ورؤى غيرهم.

لقد كان للفكر دور الريادة والاستباق في تحويل العالم من عصر القنوط والظلام الى عصر النهضة، وكان للمثقفين في الغرب وغيره، مكان الصدارة في قلب الموازين لصالح المعاصرة والتحضّر، لهذا لم يعد مستساغا ولا مقبولا أن يجد المثقف السلبي، الانفعالي، التابع، فرصة لإحباط تطوير الثقافة والوعي في مجتمعاتنا التي هي أحوج من غيرها، لهذا الشرط الحضاري الجدير بنقلنا من التيه والضياع والتخبط، الى خانة المجتمعات المتقدمة.

نحن قطعا لسنا بحاجة الى هذا النوع من المثقفين، إننا نسعى الى بناء وتطوير ثقافة جديدة متحضرة، تأخذ سماتها من قمة الصفاء الانساني، وهذا الهدف الكبير، لا يصنعه المثقفون الانفعاليون قطعا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21/حزيران/2011 - 18/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م