شبكة النبأ: قبل الخوض في الروابط
المشتركة بين العولمة الصحيحة (كما يصفها الإمام الشيرازي الراحل)
وحقوق الانسان، لابد أن نمر أولا على التعاريف والمعاني التي حاولت أن
تسبر غور هذا المصطلح القديم الحديث، فالعولمة كما ورد في تعريفها
بكتاب الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله) والموسوم بـ (الفقه: العولمة) هي: (اسم شمولي مصطلح
للدلالة على حقبة نفوذ تتميز بأدوات أوسع من الأدوات الاقتصادية، تهم
الثقافة والحضارة حتى البيئة ـ مع احتفاظ الاقتصاد بعمودها الفقري ـ
لديها قدرة التأثير على العالم، وذلك بغلبة من الرأسمالية الغربية التي
تجتاح العالم وتسيطر على أسواقه المالية والفكرية). وبهذا المعنى فإن
تأثير العولمة على العالم المعاصر يبدو جوهريا وكبيرا، وكما ورد في
كتاب الإمام الشيرازي أيضا: أن (العولمة هي الحركة الاجتماعية التي
تتضمن انكماش البعدين: الزماني والمكاني، مما يجعل العالم يبدو صغيراً
إلى حد يُحتّم على البشر التقارب بعضهم من بعض) وهذا يعني فيما يعنيه
توّحد الانسانية في عموم شؤون ومسارات الحياة، وتحوّلها الى نموذج واحد
تذوب فيه الفردية أو الهوية المستقلة، لغرض سهولة انقياد العالم لصانعي
العولمة بهذه الصيغة، وهو أمر لا يصح بطبيعة الحال، لذا ورد في كتاب
الإمام الشيرازي نفسه بهذا الصدد: (يبدو أن العولمة بمعناها الشمولي
أعم من العولمة الاقتصادية ـ وإن كانت ربما هي الهدف الأصلي من عولمتهم
الغربية تحصيلاً للأرباح الأكثر والأكبر والأشمل ـ فتشمل أيضاً العولمة
السياسية والثقافية والاجتماعية وما أشبه).
ونظرا لخطورة العولمة وفقا لهذا المنظور المنفعي البحت من جهة،
وأهميتها للعالم أجمع من جهة اخرى، فلا بد أن تتوافر للانسانية جمعاء
عولمة يصفها الإمام الشيرازي بالصحيحة، ويقول فيها بكتابه المذكور
نفسه: (إن العولمة الصحيحة هدف إنساني لا غناء عنه إلاّ بنشره وتعميمه،
ولا طريق للإنسانية إلاّ بالدخول فيها والانتماء إليها)، لذا فإن
العولمة الصحيحة، هي التي تضع مصلحة الانسان أينما كان فوق كل شيء،
وتصون حقوقه وترعاها في جميع الظروف، ولسنا كبشر بحاجة الى عولمة لا
تتنبّه لحقوقنا ولا تصونها، ونرفض العولمة التي تفضّل جماعة معينة من
البشر على غيرها، سواء في العرق او الدين او الثقافة او أي انتماء آخر
خير الانتماء للانسانية.
كما أن العولمة كإجراء قائم لم تكن وليدة العصر الراهن، يقول الإمام
الشيرازي في كتابه نفسه:
(الإسلام هو أول من طرح فكرة العولمة الصحيحة، وأول من أقام صلبها
بنظام اقتصادي سليم، وأول من جاء بمستلزماتها ومقوماتها، وأول من رصّ
أسسها وأحكم قواعدها، وقد طبّق الرسول الأعظم (ص) العولمة الصحيحة التي
جاء بها الإسلام، وحقق نظام اقتصادها السليم، وسعى لتبيينها وتحديد
مسارها ومعالمها).
ولكي نتأكد من صحة وسلامة نهج العولمة، لابد أن يكون المعيار الاول
لصلاحيتها وفائدتها للعالم هو حفظها لحقوق الانسان اولا، لذا يؤكد
الإمام الشيرازي بهذا الخصوص قائلا: (ان العولمة التي جاء بها الإسلام
هي آخر صيغة في قاموس الحقوق ـ بما فيه من حقوق الإنسان ـ من حيث الصحة
والأمانة، والجامعية والشمول، ولما كان وما يكون، ولم تكن هناك صيغة
كهذه تجمع بين العدل والأخلاق والنمو والازدهار). وهكذا نلاحظ عمق
الترابط بين العولمة الصحيحة وبين حقوق الانسان وحمايتها، أما إذا حدث
العكس، فإن عولمة من النوع الذي يهمل حقوق الانسان، لن تكون بصالحه قط،
ولهذا السبب يقول الإمام الشيرازي بكتابه نفسه: (لقد جعل الإسلام،
الإنسان وحقوقه، هو المركز والمحور لعولمته التي جاء بها، وذلك نظراً
لما يكون بين العولمة وحقوق الإنسان من ترابط وثيق، ومن تأثير كبير لكل
واحد منهما على الآخر، ومن توقف نجاح وفوز، بل سعادة وسيادة كل منهما
على الآخر، مما جعلهما كتوأمين لا ينفكّان). ويضيف الإمام الشيرازي
قائلا في هذا الصدد: (نعم إن العلاقة بين حقوق الإنسان والعولمة قد
تداخلت بشكل ملحوظ، وترابطت بصورة وثيقة، وذلك لأن العولمة وبكل
أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أخذت تؤثر تأثيراً
كبيراً وعميقاً على حقوق الإنسان في كل هذه الأبعاد المذكورة من سياسة
واقتصاد، وثقافة واجتماع، وغير ذلك). حتى في عصرنا الراهن لم تعد هناك
امكانية للفصل بين العولمة وبين حقوق الانسان، وإن أخذت العولمة طابعا
اقتصاديا أو مصلحيا وما شابه، إذ يقول الإمام الشيرازي في هذا الجانب
بكتابه نفسه: (لقد أصبحت العولمة في إطارها العلمي النظري، الذي يدعو
إلى تزايد التبادل، وتحقيق الاعتماد المتبادل على مستوى العالم، وإدارة
المصالح المشتركة للبشرية ولصالح الناس، تبدو وكأنها ضرورة لا غنى عنها
في التعامل مع كثير من قضايا حقوق الإنسان، بعد اتساع هذه الحقوق
وتداخلها على مستوى العالم).
ولهذا السبب لم تعد حقوق الانسان شأنا داخليا يعني الحكومات وحدها،
أنه أصبح شأنا عالميا لايمكن تجاوزه او التغاضي عنه، خاصة أن الوعي
آخذا بالتصاعد لدى المجتمعات المقهورة التي تعاني من فقدان الحقوق
والكرامة كما يحدث اليوم في منطقة الشرق الاوسط من انتفاضات شعبية
عارمة تهدف الى استرجاع الحقوق المسروقة من قبل الانظمة السياسية، لذا
فإن المجتمع الدولي كله معني بهذا الشأن، يقول الإمام الشيرازي بهذا
الخصوص: (لابد أن تكون حقوق الإنسان بما للكلمة من معنى جزءً من
القانون الدولي، ولم تعد الانتهاكات اليومية التي تحدث لحقوق الإنسان
في أي مكان من العالم، من الشؤون الداخلية للدولة، بل تصبح من اهتمامات
المجتمع الدولي ككل، وتتطلب تدخله فيها). ويؤكد الإمام (رحمه الله) في
كتابه الثمين قائلا: (إن دائرة حقوق الإنسان قد اتسعت اليوم اتساعاً
كبيراً، بحيث أصبحت تتناول قضايا لا يمكن معالجتها في نطاق إقليمي
محدود، وإنما يجب معالجتها على مستوى العالم). |