إفريقيا تفقد عقولها وتستنزف أموالها

 

شبكة النبأ: يهاجر آلاف الخريجين من البلدان الإفريقية بحثاً عن العمل وتطوير المهارات، وتقول الإحصاءات إن نحو مليون خريج جامعي يعملون في أوروبا اليوم، في حين تبذل حكومات إفريقية جهوداً حثيثة لاستيعاب العدد المتزايد من المتعلمين. ويقول مسؤول سنغالي «طلابنا المتفوقون في مادة الرياضيات يتم استقطابهم من طرف الجامعات».

وفي بوركينا فاسو، أحد أفقر بلدان القارة السمراء، يعاني القطاع الصحي نقصا كبيرا في الكادر الطبي، في الوقت الذي يفضل فيه مئات الأطباء العمل في الأرياف الفرنسية. ويتوجه نحو 33 من المؤهلين علميا إلى فرنسا، أي نحو 100 ألف شخص سنوياً، ويعود ثلث الطلاب فقط إلى بلدانهم الأصلية في حين يتم استيعاب البقية في قطاعات مختلفة يأتي على رأسها البحث العلمي. بحسب صحيفة لوفيغارو الفرنسية.

وأثيرت تساؤلات في الآونة الأخيرة حول جدوى الدعم الغربي للدول الإفريقية النامية، إذ تتركز المعونات على قطاع التعليم، وإذا كانت القارة تستفيد حقا من هذه المعونات أو الكوادر المحلية التي تتخرج سنوياً. وفي المقابل يشتكي الطلاب من الأوضاع السيئة للجامعات الحكومية، التي لا يوجد فيها مرافق مناسبة وكافية لأعداد الطلبة المتزايد. في حين تشتهر المؤسسات التعليمية الخاصة بالجودة والأداء الجيد. ومع ذلك فإن عددا من الدول الافريقية استطاعت أن تبني جامعات حديثة من خلال التركيز على المستوى العلمي للأساتذة، والتكوين الجيد للطلاب. وتعتبر جنوب افريقيا والمغرب، رائدتين في مجال التكوين الجامعي. حيث أصبحت هذه الأخيرة وجهة لمئات الطلاب سنوياً، الذين يأتون من بلدان افريقية مختلفة.

تزايد الطلب في السنوات الأخيرة على الكليات الخاصة التي توفر تكويناً في مجالات التقنية المختلفة مثل الإعلام الآلي والهندسة وغيرها. وتعتبر الرسوم العالية عائقاً أمام الطبقات الفقيرة التي لا تستطيع أن ترسل أبناءها إلى الكليات الخاصة، ومهما يكن فإن الرسوم المحلية أقل بكثير من تلك الموجودة في أوروبا، إلا أن الجامعات الخاصة تركز على الربح أكثر من أي شيء آخر، وتبرم اتفاقات تعاون مع جامعات ومؤسسات غربية لنيل مزيد من الصدقية.

تجربة رائدة

أطلقت دول افريقية بالتعاون مع حكومات أوروبية «مراكز التميز» سعيا منها للاستفادة من العقول المحلية، في بلدانهم الأصلية. وهذه المراكز عبارة عن كليات متخصصة أو جامعات صغيرة، تجمع عدداً لا بأس به من الباحثين وذوي الكفاءات العلمية العالية. ومن بين المراكز التي شهدت نجاحاً ملحوظاً، مدرسة «إسياك» في الكاميرون، وكلية «إي اس إم تي» في السنغال، اللتان تشهدان إقبالاً كبيراً من طرف الطلبة الحاصلين على البكالوريا، كما تسهم الشركات الخاصة في دعم البحث العلمي، كما هو الحال بالنسبة للمعهد الدولي لهندسة المياه والبيئة في بوركينا فاسو، الذي أطلق شراكة مع شركات عالمية مثل «توتال» و«سويز». ويستقطب المعهد مئات الطلاب من الداخل وبنين وساحل العاج والسنغال. ويقول مدير المعهد، الفرنسي بول جينيس «بالمستوى نفسه، نقوم بتكوين أربعة طلاب هنا بالرسوم نفسها التي يدفعها طالب واحد في أوروبا». ويقوم البنك الدولي والوكالة الفرنسية بتقديم الدعم للمعهد منذ .2005 ويقول المسؤول في المعهد، الذي تأسس عقب استقلال بوركينا فاسو قبل 40 عاماً، كواسي كاومي، ان الفقراء أصبحوا يمثلون ثلث الطلاب في المعهد.

يقول طالب من بنين يُدعى أرييل كيكلويش، 22 عاماً، انه قرر المجيء للدراسة نظراً للسمعة الجيدة التي يتميز بها المعهد، حيث يحصل 92٪ من الخريجين على وظائف. ويقول كيكلويش إنه يفضل البقاء في المعهد عن الذهاب إلى أوروبا، وقد كان من بين الطلبة الذين قضوا فترة تكوين في المدرسة التقنية في مدينة مومبلييه الفرنسية، ويقول الطالب الشاب إن «الجو في فرنسا لم يعجبني كثيراً»، ويطمح كيكلويش إلى المشاركة في إنشاء مشروع كبير للطاقة في غرب افريقيا. ويضطر بعض العائلات لرهن منازلها من أجل توفير رسوم الدراسة لأبنائها، ويقول الطالب البوركينابي بورسي، إن والده انتهج سياسة تقشفية صارمة لتوفير بعض المال، من أجل دفع الرسوم الدراسية «أشعر بأن المعهد أفضل من الجامعة، فنحن نواكب العالم المتقدم، من حيث المستوى العلمي». أما الأستاذ في المعهد، ياو أزومان، الذي يترأس مختبر الطاقة الشمسية واقتصاد الطاقة، فقد اختار العودة من مونتريال، في كندا، حيث أكمل دراسته الجامعية، ليجعل خبرته «في خدمة بلده». وعلى الرغم من أنه لا يتقاضى إلا ثلث الراتب الذي قد يحصل عليه لو بقي في كندا، فإنه فضل البقاء في بوركينا فاسو، ويعبر عن تفاؤله إزاء المستقبل في هذا الركن الفقير من العالم. ويقول أزومان «أنا متفائل جدا بمستقبل افريقيا، فقد قرّر عدد كبير من الباحثين العودة إلى بلدانهم خلال السنوات الماضية». ومن أهداف هذا الباحث الطموح المساهمة في التطوير الصناعي في مجال استغلال الطاقة الشمسية وترشيد استخدام الطاقة الكهربائية.

إقبال كبير

تعاني مؤسسات تعليمية أوضاعاً صعبة في بعض البلدان الافريقية، ففي السنغال تعج جامعة شيخ أنتا ديوب، في العاصمة دكار، بالطلبة ولا يجد كثير منهم مقاعد يجلسون عليها خلال المحاضرات. فالجامعة التي تستوعب 15 ألف طالب، يرتادها نحو 60 ألفاً، أي أربعة أضعاف الطاقة الاستيعابية. فضلا عن المباني القديمة التي تحتاج إلى صيانة وتجديد، أو غياب الشوارع المعبدة. على الرغم من هذا الوضع السيئ، إلا أن المسؤولين في الجامعة يؤكدون أن الإقبال الكبير على الجامعة يدل على المستوى الجيد. كما أن عدداً معتبراً من الأساتذة السنغاليين عادوا من الخارج بعد تحسن ملحوظ في أوضاء أساتذة الجامعة. وفي هذا السياق، يقول وزير التعليم العالي في السنغال، بابا غيي «نحن نستثمر في التعليم العالي بنسبة أكبر من المعدل العام في افريقيا»، على الرغم من قلة الموارد ونقص في الكادر التعليمي. وبدعم من الجامعات الفرنسية، تسعى الجامعات في السنغال وبوركينا فاسو إلى تعميم استخدام التقنيات الحديثة وتوسيع مجالات استخدام الكمبيوتر، كما أطلقت كليات متخصصة دراسات عن طريق الانترنت، ما يسهل على كثير من الطلبة الحصول على شهادات عليا، من دون الحاجة للسفر إلى أوروبا. ومن بين الطلاب الذين اختاروا هذه الطريقة، ميمونة أومارو، 23 عاماً، التي قررت الحصول على شهادة ماجستير في القانون الدولي من جامعة ليموج، وتقول الطالبة «الدراسة في فرنسا مكلفة، إلا أن الدراسة عن بعد صعبة مقارنة بتلك في مدرجات الجامعة، وبالتالي يجب أن أكون الأستاذ والطالبة في آن واحد». وبفضل التقنية الحديثة يمكنها متابعة محاضرة يلقيها أستاذ في باريس، على شاشة الكمبيوتر. ومع ذلك فإن الإنترنت قد توفر دعماً للتعليم في افريقيا، ولكنها لن تكون بديلاً عن التعليم التقليدي. فالطلاب في بعض الكليات في بوركينا فاسو، يحضرون الخامسة صباحاً للحصول على مقعد في مدرج المحاضرات، فضلاً عن الازدحام الشديد في غرف الطلبة والمرافق الحيوية الأخرى.

وأظهر تقرير قبل 10 سنوات ان افريقيا فقدت نحو ثلث عمالتها من المهنيين المهرة في العقود القليلة الماضية واضطرت لاستبدالهم بوافدين من الغرب بتكلفة بلغت أربعة مليارات دولار سنوياً. وقال التقرير إن «نحو 23 الفاً من الاكاديميين يهاجرون من افريقيا كل عام بحثاً عن فرص عمل افضل». وأضاف خسرت المنطقة ما يقدر بنحو 60 الفاً من المديرين على مستويات الادارة العالية والمتوسطة بين 1985 و.1990 وأشار التقرير الذي اعده كريس باكلي من جماعة بحوث التلوث بجنوب افريقيا الى ان 100 الف وافد من الدول الصناعية يعملون في افريقيا بتكلفة تبلغ اربعة مليارات دولار سنوياً. وقال التقرير «هذا يمثل نسبة 35٪ من المساعدات الرسمية للتنمية التي تتلقاها القارة». ويقول الخبراء ان تشغيل الوافدين، الذي يكون عادة اكثر كلفة من الافارقة يزيد من صعوبة عملية التنمية الاقتصادية والبيئية. ويورد تقرير باكلي هجرة العقول باعتبارها «سبباً رئيساً للتدهور البيئي».

مأساة قارة

صدر كتاب في فرنسا العام الماضي يحمل عنوان «هجرة العقول الإفريقية.. مأساة قارة خزان»، يحلل فيه مؤلفه غاستون جوناس كوفيبيديلا سياسات استقبال المهاجرين الأفارقة في دول أوروبية عدة مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. وقال الكاتب، إن الطاقات البشرية تشكل شرطاً أساسياً للتنمية، إلا أن طاقات إفريقيا تهجر القارة بشكل مكثف سنوياً. واعتبر أنه لا يمكن لإفريقيا أن تكون طرفاً فاعلاً في العولمة إلا إذا أحسنت استغلال طاقاتها البشرية. وأكد كوفيبيديلا وهو عالم الاجتماع وصحافي فرنسي من أصل كونغولي أنه «يجب تهيئة الظروف الضرورية لضمان بقاء الكوادر الإفريقية للعمل في القارة. كما يجب العمل على عودة أولئك الذين يعملون حاليا بشكل شبه مجاني في بقية أنحاء العالم إلى القارة». وأضاف «انظروا إلى الآسيويين.. إنهم يرسلون آلاف الطلبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا مع تهيئة الظروف الضرورية لعودتهم فور انتهاء دراساتهم. ونحن أيضا في إفريقيا يتعين علينا توفير الهياكل والظروف الملائمة للمحافظة على باحثينا ومفكرينا، إنه رهان تنموي».

استنزاف عقول

وتقول منظمة التنمية الاقتصادية للأمم المتحدة لإفريقيا، ووفقاً لمؤسسة بناء القدرات الإفريقية، إن إفريقيا تفقد 20 ألفاً سنوياً منذ عام .1990 وإذا استمر الأمر في هذا الاتجاه، فسيتم استنزاف عقول إفريقيا، بينما هي في حاجة ماسة إلى تطويرها. وبالتالي، إفريقيا تنفق أربعة مليارات دولار سنويا على المهنيين الأجانب لسد فجوة احتياجاتها وللقيام بالخدمات اللازمة للتعويض عن خسائرها. وتقول بيانات ان أكثر من 21 ألفاً من ممارسي الطب النيجيريين يعيشون اليوم في الولايات المتحدة وحدها. وفي غانا، واحد من كل اثنين من المهنيين المهرة اختار الرحيل، و نصف الأنغوليين المتعلمين يعيشون في الخارج، كما أن أنغولا خسرت 60٪ من أطبائها. وكمثال واحد على استنزاف العقول الافريقية، 25٪ من خريجي الجامعات الإفريقية غادروا بلدانهم، اواسط التسعينات من القرن الماضي، بعد السنة الأولى لتخرجهم حتى يتخصصوا في الدراسات العليا في الخارج، ونصف هؤلاء الطلبة لن يعودوا أبداً.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/حزيران/2011 - 15/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م