مَدينة من جَدول السّماء

فريد النمر

"لطينتي الممتلئة بنقشك السماوي قصة سكبتها أيدي الغيب بنكهة حبك الأبدي حد أزلية الموت والحياة فمن أين أبتدأ المعنى وسرك يا علي هذي الجهات"

 

غنت: فأذن شاعر ولهان= وجداول وتر لها الجريان

غنت ومتسع الفؤاد ملامح= تطفو وموسقة هو التحنان

وبيادر الأنغام وحي لهاتها= كم تستريحُ ببوحها الأغصان

وأنا اشتهاء الناي أشعل رعشتي= من رشفة سكرت بها الألحان

وتفجر الينبوع من نبضي الذي= نهمَ الضفافَ تطوفه الشطآن

ليذيبني المعني على خفقانه= نوتية يحلو بها الخفقان

 

وعلى امتداد مسائل الغيب انتشت= حورية حيث الغناء رهان

ماست بعينيها الحياة وأثملت= بالحلم يطلق بوحها الهيمان

فتقاطرت تستاف من تحنانها= مقل النجوم وثغرها الفتان

وعلى الخيال مما يشكل همسها= فاق الضياء واسكر اللّمعان

قم نصطلي النار التي في روحها= فلطالما بردت بنا النيران

ولنختلس من وشي لحظها =لوحة قدسية فالريشة الفانان

فلربما أمّ الصباح شعاعه =ولربما هزّ السنا الهيجان

ولربما تبتلّ نافحة اللّظى =فيزمّ ينبوعا لها الوجدان

 

يا للفناجين التي عاقرتها= فنسيتها والواله الفنجان

حارت بأقبية السؤال تضمني =فتلاطمت حبلى بي الأذهان

وبنشوة اللهب الحبيس تهيأت =للحب صبّ لهيبها اطمئنان

وأنا ابتكار الناي أورق صوته= في داخلي فترفه الآذان

فاستدرجيني حيث شوطك قمة =ومدى القوافي دائنٌ ومدان

فتسلّمي قِطع اللّحون فنبضتي =كالحلم يشرب عزفها الشرْيان

فتكاثري غرر المحبة وانتشي =لهباً يسيلُ مذاقه الريحان

وتعملقي مما تعشّق غصنها =ولهاً يغازل سحره الغفران

فصداكِ أودية السماء تفصلتْ =في الأرض مذ رقّت لكِ الوديان

 

يا روعة الكونين هذي طقوسنا =الثملاتُ يضفي كأسَها الدفقان

وقياثر الضلع المعتق بيننا =لحن القلوب والعاشق الرّنان

مزدانة الخفقان فيها تلاوة= قدسية وخميلها الألوان

حتى اذا رقصَ الميول تفتحت= مدن الغناء وأغلق الحرمان

وأنا ابتهال المّوج بين مرافئي= لغة الهوى والموعد الوسنان

مدني انسكاب الوقتِ تخصب ضفتي= ومناسكي قلق به الهذيان

وزوارق الآمال رحلة عاشقٍ =سكبته فيا لآلئٌ وجمان

 

يا أيها النبوي كيف عرفتني =وأنا الضئيل وحجمك الميزان

وعليك من منح السماء قداسة= كونية في تاجها الغليان

لأراكَ يهزمني السؤال على فمي= ويخونني في كنهك العرفان

حتى اذا ظمأ النهار بحيرتي =كشفتك معنىً هاهنا الأشجان

 

يا أيها النبأ العظيم يكفيك من =زغب السماء يصوغك القرآن

فتعطرت قمم أقلّ أريجها =من وحيّها يتورد الفرقان

يا سيد البلغاء حيث قصائدي =غنتك لو بلاحظها تزدان

الآن ينفتق النشيد ويرتوي =البيت ويكسي ثوبه اطمئنان

ويشيدُ ركنٌ طالما أودت به =أيدي الخداع وعاثت الأوثان

فتطهّرت تلك الرخامة مذ هوى= هام يضيئُ جبينه الرحمن

وتنزلت "بالقدر" سورة قدرة =شُق الفنار فضمّك الذوبان

وتنفّست في الأرض سورة "هلْ أتى"= حيث الجدار تضمه الجدران

 

يا يوم مولدك الشريف وهذه =غردُ الملائك رشفة ودنان

وغداة شوق جاء في ملكوتها =نهر الصلاة تؤمه الأركان

فاهتزّ ميلاد الشموس ولم يعد =من بعدِ يومك مولد فتان

هذي ابتداؤك ثورة علْوية =من حولها يتهدهد البرهان

مذ أنت كنتَ وأنت وجه عقيدة= بيضاء يذكي أريجها العدنان

غناك صبحا للولاء تقيمه =وحسامك لما انضوى نشوان

فببعضه حلمٌ يريق عدالة= وببعضه تتقاذف النيران

ومحمد لبس الحقيقة كلّها =وعصاك سيف هداية وجنان

حتى اذا التحم البقاء تدافعت =مهج الردى وحسامك الطوفان

ورآك ترتجل البطولة طامحا =يقظ الجنان وفي يديك أمان

فشمخت نابضة الفؤاد يقلّها =صوت العدالة هادرٌ رنّان

 

أيهٍ أمير المؤمنين فما اشتكى =درب لديك يميله الميلان

الا استقام على اعوجاج سراطه =ومشى أليك يجره الإذعان

وسراطك الأوفى سنابك عصمة =في كفتيه يراوح الميزان

حتى اذا أرتعت الخطوب تدافعت =مهجُ الظلام يسوقها الغثيان

وتزاحمت فزعا يفرّ بغيّها =أوضحتَ ما قد زيّف الشيطان

ومضيت تغسل بالمثقف ضجّة= حتى كأنك والسماء بيان

 

يا نغمة الطهر التى في كنهه= حار الكمال واغلق العرفان

حسدوك مجدا خطّ من تاريخه= عليائه فتناسل الطغيان

حقدا ينابزك الرفيف وتارة =غدرا يسنّ شفاره العصيان

وتقاذفوك بمكرهم وتسلقوا =ملء الجهات تفحّك الأظغان

وقدوا لنار البغض بعض تراثهم =حتى استحتْ من ذئبها القمصان

فتشابهوا بقعا فليس معاند =الا وشدّ بخصره الغثيان

وأثاروا تاريخا يسود بحقدهم =في صدره يتشدّق النكران

حامت عليه المغريات فافرغت =منه القلوبُ وحُكّم الجثمان

 

وتصاغروا وكبرت طودا شامخا =من عشقة تتفقهُ الأديان

وصنعت تاريخا أنار معرافا =كالفجر ملء سماته الأيمان

وتدور دالية الحقوق فلم ترى= اللاّك فيه ينتهي الدوران

وسكبت آيات الرؤى منسابة =فتهاوى من سرب اللظى الدخّان

 

يا أيّها النجف المشرف =هاهنا تتوقف الآمال والأشجان

أيعينني الرّمل المنضّددُ بالهدى= ويخيفني التبر والمرجان

ظمأت هنا للعشق ألف قصيدة =فتبعثرت خجلا لك الأوزان

قم واسقها فنمير قلبك مفعم =أي- يا علي ونبضك الرّيان

وأنا القطيف حضارة علوية =وسنابل تشذو بها الأوطان

ما شذّ عن سبل المودة قلبها= كلا وما أغفى بها الرّبان

 

لا لم تملْ قيد الغناء.. فلحنها= نسكٌ إليك يخيطه التحنان

ملء الهوى راحت تمدّ ولائها =للماء حيث نخيلها القربان

وبنت على الدرب الجسور مبادئا =ما افتض فيه للهدى عنوان

عبثا يساومها الرماد بظله =ويسوسها من غيضه البهتانُ

فتخضّرت ومدى الصحاري جمّة =وتمدنت حيث المنى الإنسان

لا لم تخن للطين نخلة ظلّها =إنّ الجفاف بطبعه.. الخوّانُ

فنمت وغرسك يا علي حكاية =للحبّ ذاب بفيئها الغفران

ومدينة هي للتسامح لم تزل= بولائها يتأنق البستانُ

تبقى بحبك يا عليّ فكلّما =غنّى النخيلُ تسبّحُ الشطآنُ

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/حزيران/2011 - 15/رجب/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م