هناك ثلاث قوى اقليمية تتصارع على الربيع العربي من شمال افريقيا
الى الجزيرة العربية هي السعودية وايران وتركيا. ويبدو ان هناك من
سيخسر نفوذه في بعض المناطق وسيكسب في مناطق اخرى وكل ذلك يجري على
الارض العربية ويبقى الشعب المغلوب على امره هو من يدفع ثمن الصراع
الاقليمي والتسابق الى جعله يصب في مصلحة واحدة من زوايا المثلث.
ان بدأنا بالسعودية نجدها المتضررة الاولى من سقوط نظامي بن علي
ومبارك لذلك استبقت الامور في محيطها المباشر وقمعت الحركة الديمقراطية
في البحرين بجنود درع الجزيرة والذين لهم اهمية ربما رمزية فقط حيث انه
كان من السهل على شرطة البحرين وعساكر آل خليفة ان يقضوا على مسيرات
سلمية بسهولة دون الحاجة الى قوة خارجية ولكن استحضار درع الجزيرة له
ابعاد اكبر من مهامه على ساحة المعركة بين شعب اعزل واجهزة امنية. وعلى
الحدود الجنوبية حيث للسعودية مصالح امنية في اليمن تتمثل بابقاء هذا
القطر ضعيفا ليسهل استيعابه واستمرارية اعتماده على السعودية اقتصاديا
عن طريق المعونات والتي تأتي على شكل استقطاب للقيادات السياسية
والقبلية واتاوات شهرية كانت خلال السنوات الماضية تنتشر صورها على
شبكة الانترنيت حيث طوابير يمنية تصطف في جدة وغيرها من المدن وهي
تتسلم الاتاوات الفصلية.
وليس بالمستغرب ان ينتقل علي عبدالله صالح للعلاج في مستشفيات
السعودية وربما ينضم الى شخصيات يمنية كانت قد توفت في السعودية بعد
تلقي العلاج. وجود الرئيس اليمني في السعودية ولو جريحا يبقى ورقة ضغط
وربما عملية ابتزاز وسيطرة على مجرى الاحداث في اليمن خلال الاسابيع او
الشهور القادمة التدخل السعودي في اليمن والذي اتخذ في السابق منحى
الهبات الاقتصادية المرتبطة بالولاء السياسي للزعامة في الرياض وخاصة
وزير الدفاع سلطان بن عبد العزيز تحول بعد ذلك الى تدخل عسكري عندما
ضرب الجيش السعودي صعدة في حرب علي عبدالله صالح على الحوثيين. ويبدو
ان الملف اليمني انتقل الى وزارة الداخلية السعودية وخاصة محمد بن نايف
نائب والده بعد ان دخلت ملفات القاعدة الى خفايا العلاقة السعودية ـ
اليمنية. وزعمت السعودية ان محاولة الاغتيال التي تعرض لها نائب الوزير
من قبل القاعدة كانت مصممة ومدبرة في اليمن.
وبعد ستة اشهر من بدء الربيع العربي تبدو السعودية وكأنها في سباق
سريع لاحتواء تداعيات هذا الربيع في الجزيرة العربية اما عن طريق القمع
المباشر كما حصل في البحرين او عن طريق التلاعب بالنسيج السياسي اليمني
وقياداته. وان كانت البحرين عملية سريعة وحاسمة في هذه المرحلة الا
انها تبقى قابلة للانفجار في اي وقت. اما اليمن العصي فسيظل معقدا وغير
قابل للاحتواء من قبل القوة السعودية الاقليمية لان في اليمن حاليا
ثلاث ثورات في واحدة وهو ما لا تستطيع القيادة السعودية التعاطي معه
بسهولة. الثورة الاولى هي الصراع بين نخب قبيلة حاشدة نفسها حيث يدخل
بعضها في سلسلة من الاقتتال على السلطة بدأ يظهر بوضوح. والثورة
الثانية هي بين احزاب المعارضة التقليدية والنظام. والثالثة هي ثورة
الشباب التي فجرت الثورة الحقيقية مع وجود عناصر داخلية وخارجية تحاول
التسلق عليها ناهيك عن معضلة الشمال والجنوب.
فكيف على القيادة السعودية استيعاب هذا الوضع اليمني المعقد وهي في
مرحلة الشيخوخة وانعدام النظرة الواقعية لمسارات الحراك العربي من شمال
افريقيا الى جنوب الجزيرة العربية. بالاضافة الى الفائض الاقتصادي
السعودي والذي يوزع حاليا على الشعب وان بكميات نسبية ضئيلة نجد جزءا
من هذا الفائض يستخدم لتمرير المشروع السعودي الهادف لاحتواء الثورات
كما في اليمن او القضاء عليها تماما كما في البحرين.
ولكن تملك السعودية سلاحا فتاكا اكثر ضراوة من الفائض النفطي واكثر
دموية من درع الجزيرة والذي كان احرى به ان يتوجه لتحرير جزر تعتقد
دولة الامارات ان ايران تحتلها فكيف بهذا الدرع ان يقبل باحتلال ارض
دولة هي عضو دائم في مجلس التعاون ويقف متفرجا على احتلال جزره ويتوجه
الى البحرين ليخلص اسرة حاكمة من حراك شعبها.
هذا موضوع آخر ولكن السلاح الاكثر فعالية من وجهة النظر السعودية
والذي يمكن النظام من السيطرة على الحراك الشعبي في بلد كاليمن
والبحرين هو السلاح الطائفي والذي تتمترس به القيادة السعودية وجهازها
الديني حيث له مخزون تاريخي عميق يجعله جاهزا للاستعمال في المناطق
العربية خاصة تلك التي بها تعددية مذهبية واثنية كاليمن والبحرين. وعلى
عكس المعونات الاقتصادية والغزوات العسكرية الفاشلة نجد ان السلاح
الطائفي رخيص للغاية لكنه يكفل اشتعال حمامات دم تفتك بالنسيج
الاجتماعي وتنذر بعواقب وخيمة. وقد اعتمد النظام السعودي اليوم خطاب
الطائفية ليقمع ليس فقط الحراك الشعبي في الوسط السعودي كما صور اي
دعوة للتظاهر والمطالبة بالحقوق على انها دعوة شيعية مدعومة من الخارج
بل ايضا صور كل حراك حالي وكأنه مؤامرة شيعية حتى ان قيادة السيارة
للمرأة والحراك المتعلق برفع الحظر عنه قد تم تشييعه ليصبح مؤامرة
خارجية على الامة من اجل تغريبها وامناءها وقبل ذلك تم التعاطي مع
دعوات التظاهر يوم 11 آذار/مارس والتي صدرت من حركات اسلامية سلفية
كالحركة الاسلامية للاصلاح وحزب الامة على انها دعوات ايضا شيعية
تستهدف اهل السنة والجماعة. وتم تصدير هذا الخطاب بسرعة بهلوانية الى
البحرين من اجل اجهاض حركة تطالب بتغيير سياسي جذري.
اما القوة الاقليمية الثانية ايران فهي تحاول ان تتبنى بانتقائية
ثورات العرب الحالية ومنها ما كان في تونس ومصر وليبيا ومن ثم البحرين
واليمن ولكن تصوير هذه الثورات على انها صحوة اسلامية كان خاطئا لان
القوى الاسلامية كانت جزءا من الحراك الشعبي وليس الكل مهما تم اخفاء
الحقائق والافرازات.
لقد ساهم الاخوان المسلمون في مصر مثلا بشكل فعال خلال العقود
الماضية كقوة معارضة منظمة في صياغة خطاب معارض لديكتاتورية مبارك
وللمجموعة ادبيات تملأ رفوف المكاتب عن الحقوق والمشاركة السياسية
والديمقراطية والمشاركة الشعبية لا يمكن تجاهلها في فهم ما جرى في مصر
خلال اسابيع قليلة. لكن لا يجب ان ننسى ان هناك فعاليات شبابية اخرى
لعبت دورا مهما في الحراك المصري.
وان كانت السعودية خسرت حليفها المصري بعد ثورة مصر تبدو ايران
وكأنها كسبت دولة عربية اخرى ومصر لن ترتمي في احضان ايران الا انها
اليوم اكثر حرية في تطبيع علاقاتها مع دول المنطقة ومنها ايران وتبني
علاقات طبيعية معها بعد قطيعة دامت ثلاث عقود وجاء السماح للسفن
الايرانية بعبور السويس في مرحلة الثورة كرمز لبدء صفحة جديدة تلتها
زيارات الوفد المصري لطهران مؤخرا مما يجعل ايران تكسب بعض المنفعة من
تداعيات الربيع العربي مما يجعل السعودية تتعجل في ارسال الدعم المالي
للجيش المصري ورموزه الحالية تخوفا من تقارب مصري ـ ايراني مرتقب. وفي
الوضع التونسي اختلفت السعودية مع ايران في حماسها للثورة حيث علاقات
السعودية مع بن علي كانت مهمة وعلاقة ايران معها غير ذات اهمية تذكر.
واتفق الفريقان على الثورة الليبية فصحافة الدولتين تظهر حماسا لهذه
الثورة مع اختلاف بسيط.
تتغاضى السعودية عن قتلى طائرات الناتو بينما تظهر ايران المصالح
الغربية السافرة في تبني المجلس الانتقالي الليبي ودعمه. فيظهر اوباما
وكاميرون وساركوزي وبرلسكوني كرموز الامبريالية الجديدة. بينما
السعودية تتجاهل اي مصالح غربية وتستخف بعقول المتابعين عندما تجعل
التدخل الواضح والصريح كعملية انسانية وكأن هؤلاء القادة هم اعضاء
جمعية خيرية وليس رؤساء دول لها مصالح اقتصادية واستراتيجية في شمال
افريقيا وليس من المستغرب ان يتواجد الناتو وقواته في المستقبل في
قاعدة عسكرية في شمال افريقيا تتوسط بين مصر بعد الثورة والمغرب وكذلك
تشرف على ما يدور في الساحل الافريقي حيث ان لفرنسا مشكلة معقدة مع
القاعدة وخلاياها في هذه المنطقة الافريقية.
ويبرز الدور التركي كقوة اقليمية دخلت المنطقة حديثا بعد تبنيها
لقضايا بلاد الشام بدءا من فلسطين وحصار غزة واختراقها للسوق السورية
وعلاقاتها الطيبة مع بشار الاسد والتي تعكرت مؤخرا فقط بعد تصريحات
القادة الاتراك الداعية للحوار وتبني اصلاحات شاملة في سورية وبعد
احتضان تركيا للمؤتمرات المعارضة السورية تحاول هذه بدورها ان تتعاطى
مع الثورات العربية وربيعها باستيعاب نتائجها في محاولة لدعم المد
التركي الجديد في المنطقة العربية. اما في ليبيا فخسرت تركيا موقعا
اقتصاديا مهما دخلته منذ سنوات وتواجدت به كمحرك اقتصادي وجاءت
معارضتها للتدخل الاجنبي في ليبيا وتبني مبدأ الحوار من منطلق الحفاظ
على هذه المصالح الاقتصادية الناشئة.
هل يجعلنا هذا العرض نستنتج ان المنطقة العربية وثوراتها قد تم
بالفعل استيعابها والقضاء على بعضها وانفلات البعض الآخر من قبضة قوى
اقليمية هي اليوم بمعزل عن الثورات ولو لمرحلة آنية. لا نعتقد ان تركيا
مرشحة لاي ثورة حيث ان مؤسساتها القديمة وقادتها الحاليين اثبتوا انهم
طاقم متمرس في السياسة استطاع ان يجمع بين الاسلام والديمقراطية بطريقة
حضارية لا تزال الشعوب العربية متخلفة في تقليد هذا النمط خاصة في قلب
الجزيرة العربية حيث جمع النظام السعودي اسوأ ما في الحكم القبلي واسوأ
ما في الحكم الملكي واسدل على هذا الحكم مظلة اسلامية شوهت الاسلام ولم
تقفز به الى تحديات القرن الواحد والعشرين.
ان كان للشعوب العربية من مستقبل فعليها ان تقاوم القوى الثلاث
السابقة الذكر وهيمنتها. وتستلهم من التجربة السياسية التركية ما
يفيدها في مرحلة تنتقل فيها من الديكتاتورية الى الحرية والكرامة
والاستقلال. عندها فقد نصل الى نمط الحكم الحضاري الذي يليق بنا كعرب
المستقبل وليس الماضي.
* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
صحيفة القدس العربي |