الثورات العربية وهشاشة البناء السياسي المرحلي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: يستدعي البناء بكل أصنافه وأنواعه، حالة من التكامل لكي يحصل القائمون به على نتائج مقبولة تؤدى الى الهدف المبتغى أو المخطَط له مسبقا، فحين يسعى الانسان نحو تجميل الشكل، لا يصحّ أن يهمل الجوهر، وحين يسعى المفكرون في بناء الجانب الفكري، لاينبغي التغاضي عن البناء المادي المتساوق، والعكس يصح أيضا، وهكذا ينبغي أن يكون البناء ذا طبيعة شمولية تتخلى عن الاجتزاء والاحادية.

في الغرب لا تعتمد المجتمعات في بناء نفسها على قادة سياسيين مرحليين، بمعنى أنهم لا يسمحون للسياسي أن يتفرد بعملية البناء المجتمعي الشامل، لهذا نرى تلك المجتمعات حققت نجاحا باهرا في البناء الشامل، أي أنها نجحت في البناء الاقتصادي، الصحي، التعليمي، التربوي، والسياسي الذي يشكل جزء من هذا الكل المتكامل، ويتناغم معه ولا يتسيَّد عليه إلا من ناحية الادارة، وفقا لضوابط دستورية قانونية، لا أحد يستطيع القفز عليها حتى القائد السياسي الأعلى.

أما في المجتمعات الاسلامية العربية، فدائما هناك بُناة سياسيون مرحليون، يتصدّون لمهمة بناء المجتمع، ولكن بأداة السياسة وطابعها غير المكتمل، لهذا غالبا ما يكون نوع البناء سياسيا مجتزءاً، وهنا يكمن مكمن الخلل والضعف والخطورة، فحين يتوفر للدولة قائد سياسي جيد محنك فكريا وعمليا، تُبنى تلك الدولة وذلك المجتمع بناءاً جيدا وناجحا، وحين يكون القائد فرديا مستبدّا، فاشلا ومصلحيا، فإن البناء سيأخذ طبيعته السيئة والناقصة، من طبيعة ذلك القائد الفاشل.

الفرق بين الغرب والشرق، وبين الغرب والعرب أو المسلمين بصورة عامة، يتركّز في أدواة البناء البشرية وما يتبعها، في المجتمعات الراسخة المتطورة، لا احد يسمح للسياسي أن ينفرد بعملية البناء كما قلنا، إلا بحدود الضوابط الدستورية، ولهذا هم في منأى عن خطر الطغيان والاستبداد، والمرحيلة السياسية التي تلقي بضلالها على جميع مفاصل المجتمع، إنهم يبدؤون من نقطة شروع واحدة، السياسي والمفكر والطبيب والمزارع والعامل وغيرهم، جميعا ينطلقون في عملية بناء شاملة لا يطغي فيها أحدهم على الآخر لاسيما السياسي، ليس هناك فرصة تتاح للقائد كي يعكس طبيعته ورغباته الفردية على عملية البناء المجتمعي قط، وليس هناك فرصة لمصادرة أدوار البُناة الآخرين، الكل يلتقي في مشتركات رابطة هدفها بناء المجتمع ماديا وفكريا بطريقة سليمة، ولهذا تحكمهم ثقافة التشارك والبناء الشمولي المتناغم.

ما يحدث الآن من تغييرات جوهرية في الشرق الاوسط ممثلة بالانتفاضات الشعبية الشبابية وغيرها، يمكن أن تأخذ الطابع الشمولي الأمثل للبناء، فيما لو تمّ تحييد الانفراد السياسي وحُجِّم دور القائد، وأخذ السياسيون موقعهم المناسب ليس بصفتهم البُناة الأهم من غيرهم، بل بصفتهم مشاركين لبُناة آخرين وهم كثر، وجميعهم له القدرة على توظيف المتغيرات الراهنة لصالح المجتمعات الشرق أوسطية، فيما لو تم التعامل مع هذه الانتفاضات واستثمارها بعيدا عن التسلط السياسي الأوحد.

هذه الانتفاضات والمتغيرات المحورية تشكل فرصة العرب والمسلمين لتحييد السلطة السياسية، وحصرها في مجال اختصاصها العملي المحدد بالدستور، ولا ينبغي أن تقفز السياسة الى المركز السلطوي (بحجة البناء) لتمارس عمليات التهميش لشرائح ومكونات المجتمع الاخرى، نحن بحاجة الى بناء مجتمعي يشترك فيه الجميع على قدم المساواة وتكافؤ الفرص، ونحتاج الى نشر وتطوير ثقافة البناء الشمولي المتعاضد، وهو البناء الذي يُحدث تناغما وانسجاما بين السياسي وغيره من البُناة، ولا يسمح له بالتطور على حساب الآخرين او الميادين الاخرى، لكي نتجنب الاعتماد على البناء المرحلي الهش للقادة السياسيين حين ينفردون بعملية البناء حتى لو كانت صحيحة وناجحة، والسبب في رفض هذا التوجّه لأن زوال القائد السياسي الناجح سيؤدي الى زوال البناء المجتمعي الذي يرتكز الى جهده وقدراته الفردية.

لهذا نحن - معظم مجتمعات الشرق الأوسط- نحتاج الى ثقافة بناء حيوية مترابطة تمتد الى مفاصل المجتمع كافة، ولا تكون مرحلية هشة تزول بزوال قادتها السياسيين لأي سبب كان، وربما تمثل الانتفاضات الراهنة فرصة ذهبية للشروع في منهج البناء المجتمعي المتكامل، على حساب القادة والساسة المرحليين الزائلين.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/آيار/2011 - 24/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م