رغم أن الكلام تعدد عن مغزى الحروف القرآنية التي وردت في عدد من
سور القرآن الكريم، لكنها بالتأكيد تنطوي على معانٍ عدة لا يعرف
تأويلها إلا الله ورسوله والراسخون في العلم، وهي في الوقت نفسه تعد
منهجا أدبيا في تلخيص المعاني الكثيرة في عبارة قصيرة أو حروف مقتضبة،
فإذا ما أشير إلى كلمة أو حرف أو حزمة حروف متقطعة أو مجتمعة تناهى إلى
الذهن المراد.
ومثل هذا الأدب الرفيع اشتهر مؤخرا في الحياة اليومية للمجتمعات
الغربية، فيصار إلى اختصار أسماء الشركات أو المؤسسات أو المنظمات
بالحروف الأولى لها، كقول الناطقين باللغة الإنجليزية: (WW1) و(WW2)
و(UN)، فالأولى مختصر (World War I) أي الحرب العالمية الأولى،
والثانية مختصر (World War II) أي الحرب العالمية الثانية، والثالثة
مختصر (United Nations) أي هيئة الأمم المتحدة، وبالنسبة للناطقين
باللغة العربية يقال: (أوابك) و(الإيسيسكو) و(اليونسكو)، فالأولى من (OAPEC)
وهي اختصار من: (Organization of Arab Petroleum Exporting Countries)
أي: منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط، والثانية من (ISESCO) وهي
اختصار من: (Islamic Educational, Scientific and Cultural
Organization) أي: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة،
والثالثة من (UNESCO) وهي اختصار من: (United Nations Educational,
Scientific and Cultural Organization) أي: منظمة الأمم المتحدة
للتربية والعلوم والثقافة، وقد استبدلت الحروف عن الكلمات أو العبارات
في معظم حقول المعرفة كعلم الكيمياء والطب والفيزياء وغيرها.
وقد كان الأدب العربي سباقا إلى التلخيص المعرفي لتسهيل العلوم على
الفهم السريع، وهذا ما نجده في علم التجويد وعلوم اللغة والنحو والصرف
وفي علوم الفقه والأصول والمنطق وغيرها، ويعد الأدب المنظوم بعامة
والأرجوزة بخاصة مطية العلوم، ولهذا على سبيل المثال ضمّن إبن مالك
محمد بن عبد الله الطائي الجياني (600- 672هـ) قواعد النحو والصرف كلها
في أرجوزة من 1200 بيت تحت مسمى "الخلاصة" أو ما اشتهر بين الناس بـ "ألفية
إبن مالك" يسهل على العالم والمتعلم هضم قواعد اللغة العربية من خلال
حفظ الأرجوزة.
وعلى هذا المنال وفي بادرة جديدة سار الأديب والشاعر المعاصر نزيل
كربلاء المقدسة منذ عام 1956م الشيخ سلطان علي بن حسين الصابري التستري
الحائري في تضمين أسماء وعناوين مجلدات دائرة المعارف الحسينية للعلامة
الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي في قصائد ومقطوعات من (1530) بيتاً
حسب قوافي الحروف الهجائية كافَّة سمّاه "الألفين في تقريظ موسوعة
الحسين" صدر عن بيت العلم للنابهين ببيروت حديثا (2011م) في 328 صفحة
من القطع الوزيري.
قوافي المعرفة
ضمّ الديوان (135) قصيدة ومقطوعة وكل واحدة تحكي عن باب من أبواب
الموسوعة الحسينية الستين أو عنوان كتاب من أجزاء الموسوعة التي فاقت
الستمائة، أنشأها الأديب الصابري وأنشدها في فترات زمانية مختلفة وفي
أماكن متنوعة توزعت بين العراق وإيران وسوريا.
ويلاحظ أن الشاعر يعمد في بعض القصائد إلى وضع عنوان الكتاب في صدر
بيت أو عجزه، وفي معظم القصائد يوزعها على أبيات القصيدة، ومن مجموع
المفردات يتحقق الإسم الكامل للكتاب، وهو نوع من فنون الأدب، ومن ذلك
أرجوزته المعنونة "شيخ المعالي" يشير فيها إلى كتاب "الحسين في التراث
الشعبي"، يقول في بعضها:
أنتَ الذي لكَ (التراثُ) تعتذِرْ *** وتبسطُ البذلَ بوعدٍ مُنحصِرْ
هذا الكتابُ دُرٌّ يا مَنْ فَهِم *** كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كاستَقِمْ
وقام الشاعر في هذا الأرجوزة المتكونة من 18 بيتاً بتوزيع مفردات
عنوان الكتاب بين الأبيات كما هو الظاهر في البيت الثامن والأخير:
إنَّ (الحسينَ في التراث) وُجِدا *** على الَّذي في رَفعِهِ قَدْ
عُهدا
وسِفرُهُ (الشعبيُّ) جوهرٌ فلا *** تَعدلْ به فهو يُضاهي المثلا
وتمثّل الشاعر الصابري الحائري في هذه الأرجوزة بعالم النحو إبن
مالك في أرجوزته في أول باب من أبواب النحو والصرف حيث يقول:
كلامُنا لفظٌ مفيدٌ: كاستقمْ *** واسمٌ وفعلٌ، ثُمَّ، حرفُ الكَلِمْ
وفي مكان آخر يحتل عنوان الكتاب شطراً من بيت كما في مقطوعته
المعنونة "راحلٌ ظمانُ" وهي من بحر الرمل الثالث المقبوض الضرب، يقول
في أولها:
قيل لي: أينَ حُسينٌ قد مضى *** بأبي من راحلٍ ظمآنِ
ثم يصل موضع الشاهد:
قلتُ: فاعلمْ إنَّ في ذاكَ وذا *** وكذا (الحسينُ في القرآنِ)
آية التطهيرِ قُربى بعدها *** وأُريهمْ سورةَ الإنسانِ
لهفَ قلبي فلمَا قتلو *** هُ وذي الآياتُ بالتِّبيانِ
وأتى الشاعر هنا بعنوان الكتاب وأتبعه ببيت مِنْ سِنْخِ مادته في
محاولة أدبية لطيفة لإعلام القارئ بمحتوى المجلد وذلك بأن استشهد بآية
التطهير: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الأحزاب: 33، وسورة
الإنسان التي نزلت في فاطمة الزهراء وبعلها علي وابنيها الحسن
والحسين(ع) في قصة النذر وإطعام المسكين واليتيم والأسير، كما في قوله
تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا
كَافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
تَفْجِيراً. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً
وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) الإنسان: 5-9، ثم يتساءل
الشاعر: لماذا أقدم القوم على قتل الإمام الحسين(ع) وأبنائه وإخوانه
وسبوا نساءه وهو في هذا المنزلة العظيمة؟ تساؤل لازال قائما إلى اليوم
ويتكرر كلما أقدم القوم على الطعن بالنهضة الحسينية وأهدافها التحررية
الإنسانية نصباً للعداء أو غلُّوا في الولاء.
الشجرة المالكية
ولا يخفى أن التاريخ حفل بشخصيات حفرت اسمها في ذاكرة الإنسانية بما
لا يمكن نسيانها مع كرور الأحقاب والدهور، وإذا كان لهذه الشخصية أو
تلك أحفاد يعيشون بين أظهرنا، فلا غرو أنها ستكون حاضرة بشَخْصِها
المعنوي وفاعلة بخَلَفِها الحيوي.
وفي ديوان "الألفين في تقريظ موسوعة الحسين" يذكرنا الشيخ الصابري
الحائري في عدد من القصائد والمقطوعات بشخصية القائد الإسلامي والي
الخليفة علي بن أبي طالب(ع) على مصر مالك بن الحارث الأشتر النخعي
المستشهد بمدينة الخانقاه (الخنگه) –بلدة مرج الجديد شمال شرق القاهرة
باتجاه مدينة القليوبية حيث مرقده- سنة 37هـ وهو في معرض الحديث عن
شخصية مؤلف دائرة المعارف الحسينية الشيخ محمد صادق الكرباسي، فهذا
الشبل من ذاك الأسد نسباً، وفي هذا يقول الصابري من قصيدة رائية من بحر
الكامل الأول في 33 بيتاً بعنوان "يا صادق القول" في تقريظ كتاب "ديوان
القرن الأول" كما في الأبيات: 13-16:
يا صادقَ القولِ البهيِّ ورائدَ الــ *** الجيلِ الزكيِّ وهاديَ
النَّبِهِ السَّري
أنتَ الجديرُ بكُلِّ فضلٍ نِلتَهُ *** وحوَيْتَهُ وبكُلِّ مَكْرُمَةٍ
حري
إذْ كنتَ من قومٍ سُراةٍ نُبَّلٍ *** وأجِلَّةٍ من مالكِ ابن الأشترِ
كَمْ ساندَ الكرّارَ في سطواته *** فلأنتَ سيفُ الحجِّ وهوَ
السَّمْهَري
وفي البيت الثالث نسبَ الشاعر تجوُّزاً مالكاً إلى الأشتر، في حين
أن النسبة جاءت إليه فيما بعد لشتر (شق) أصاب عينه خلال معركة اليرموك
عام 15هـ.
وفي قصيدة قافية من بحر الطويل من 14 بيتاً بعنوان "للحَبر أرسلتُ
مدحي" يقول صاحب الديوان وهو في معرض تقريظ كتاب "قصة الحسين" كما في
البيتين: 8 و9:
قد امتازَ سبقاً في المعارفِ صادقٌ *** بلا سابقٍ فيها عليه ولاحقِ
خبيرٌ نماهُ للمعارفِ والعُلى *** لِمالكَ أشترٍ كريمُ المعارقِ
ولم يُخطئ الشاعرُ مركزَ الهدفِ، فلا يُنمى الكرباسي إلى مالك نسباً
فحسب، فهو منه نسباً وإليه حسباً ومن فعله مثلاً، بل ربما فاق الجد
أثراً، فالحفيد للحسين(ع) كما كان الجد لعلي(ع) وكما هو علي(ع)
لمحمد(ص) ظله في حلِّه وترحاله، فكان الإمام علي(ع) للنبي باب علمه
ودرعه، وكان مالك لعلي حامل لوائه ورايته، والكرباسي للحسين ناشر نهضته
وحامي رسالته من التزوير عمداً والتزويق جهلاً.
وحيث أجاد الشاعر الصابري في درج معظم أسماء أجزاء الموسوعة
الحسينية المطبوعة منها والمخطوطة في صدور الأبيات وأعجازها مجتمعة أو
متفرقة، فإنه برع في طرق أبواب القوافي كافة من ألفها إلى يائها،
واستأثرت الأخيرة بأكثر عدد من القصائد والأبيات حيث ضمت 25 قصيدة
ومقطوعة في 210 أبيات، تليها قافيتا الدال واللام ولكل منهما 14 قصيدة
ومقطوعة لكن الأولى اصطف فيها 166 بيتاً والثانية 138 بيتاً، وجاءت
قافية الراء ثالثة بـ (12) قصيدة ومقطوعة من 148 بيتاً ثم السين والتاء
والهاء، مضيفا إلى القوافي قصائد في الأرجوزة والمربع واللطميات
والموشح والشعر الحر والأبوذية.
فديوان "الألفين" زورق من البحور الخليلية والكرباسية يبحر في محيط
دائرة المعارف الحسينية.
• باحث وجامعي عراقي- الرأي الآخر للدراسات
بلندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk |