خِطَابَانِ لِرُؤيَةٍ أمْريكِيّةٍ جَديدَةٍ للشَرقِ الأوْسَطِ الكَبِير

محمد جواد سنبه

قبل أنْ يوجّه الرئيس الأمريكي أوباما خطابه الرابع للشرق الاوسط وشمال افريقيا، مساء يوم الخميس 19 أيار 2011، قامت وزيرة الخارجية الأمريكيّة هيلاري كلينتون، بإلقاء كلمة في مقر وزارة الخارجية الأمريكيّة وامام موظفيها، استغرقت هذه الكلمة زهاء أربع دقائق، كمقدمة سبقت خطاب الرئيس أوباما.

 بيّد أنَّ الدقائق التي استغرقتها السيّدة كلينتون في كلمتها، كانت غزيرة بالمعلومات الجديدة والمهمة أيّضاً. ومن وجهة نظري، أنّ السيّدة كلينتون، ركّزت على قوّة الإدارة الأمريكيّة في اجراء التغيير الديمقراطي في الشرق الاوسط وشمال افريقيا. بيّنما كان خطاب الرئيس الأمريكي، خطاباً شاملاً أكّد فيه على تطبيق مبادئ أمريكيّة يؤمن بتطبيقها وهي: الحرية، المساواة، حرية التعبير، حقوق المرأة، حرية الحوار والتظاهر. صحيح ان هناك تناغماً بين الخطابين، من حيث نشر المبادئ الأمريكيّة في العالم، والتركيز على دور أمريكا القيادي، لكن كلمة السيّدة كلينتون، عرضت الوجه الخفي للسّياسة الأمريكيّة، فأكّدت على تطلعات أمريكا لقيادة العالم وفق آليات محددة، ويمكن تلخيص كلمة السيّدة كلينتون في النقاط التالية:

1. انتهاج سياسة خارجيّة جديدة للولايات المتّحدة، والتعامل مع الإدارات الشريكة لأمريكا بطريقة ابتكاريّة.

2. قيادة أمريكا للعالم باتت أكثر ضرورة من أيّ وقت مضى.

3. هناك موظفون في الخارجيّة الأمريكيّة، يعملون في (الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة). لهم دور كبير في ترجمة الرؤيّة الأمريكيّة إلى واقع ملموس، تلمسه كل دوّلة في العالم. (بتصوري أنّ الوكالة المشار اليها آنفاً، تقوم بعمل استخباراتي كبير، للإسهام في إنجاح التغيير بمناطق عملها، بموجب الرؤيّة الأمريكيّة. وبطبيعة الحال إذا كانت ثورات التغيير، لا تتماشى مع التطلعات الأمريكيّة، فهناك فرص كبيرة لتغيير اتجاهها عن طريق عملاء الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة).

4. لقد زوّدت الخارجيّة الأمريكيّة أعضاء الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة، (بالأدوات لإنجاز مهامهم وهذا يعدّ ضرورياً للغاية، ولا بدّ لنا لأنْ نعمل على ابقاء المصادر المطلوبة من اجل هذه القضايا/ من كلمة هيلاري كلينتون).

5. كان هناك عملاً منسقاً بيّن عناصر من وزارة الداخليّة الأمريكيّة وخبراء آخرين، وبيّن الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة، فهذه المجموعة هي التي تُبلّور التصوّرات الأمريكيّة وتحافظ على مصالحها، وتعزّز قيم أمريكا لإحداث التغيير في الشرق الاوسط وشمال افريقيا. (فهؤلاء الموظفون يحملون قيم أمريكا أبعد من جدران السفارات، ويعملون على نقلها من خلال الشبكات الإجتماعيّة، ومن خلال تنقلهم ومن خلال مشاهدتهم للاجتماعات، ومن خلال الجمعيات والمؤسسات غير الحكوميّة، ونحن نسعى لبناء المؤسسات التي تحمل في طياتها الديمقراطيّة. هؤلاء المواطنون يمثلون أجمل ما في أمريكا، ويشرفني أنْ اقدمهم بأنهم وجهنا للعالم/ من كلمة هيلاري كلينتون).

6. أوضحت السيّدة كلينتون، بوجود شجعان في العالم عملوا من أجل الديمقراطيّة والكرامة وتحقيق السلام والفرص، وهي القيم التي جعلت أمريكا أمّة عظيمة، وهؤلاء الأصدقاء محطّ اهتمام أمريكا والاعتزاز بصداقتهم.

7. هؤلاء الاشخاص في الشرق الأوسط وشمال افريقيا قرروا تقرير مصيرهم ورسم مستقبل المنطقة أيضاً.

8. أمام أمريكا لحظة مختلفة تتطلب رؤية ثاقبة للدور الأمريكي في المنطقة والذي لا يمكن التنازل عنه.

9. أكدت كلنتون على دور اعضاء الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة بقولها: ( هؤلاء الشجعان من تلاميذ أوباما منذ أول يوم استلم فيه السلطة لذا فاننا واثقون منكم وفي مهمتكم بالمستقبل).

الملفت للنظر أنّ خطاب الرئيس أوباما الذي أعقب كلمة السيّدة كلينتون، لم يُشر إلى المعلومات التي قدّمتها وزيرة خارجيّته، المتعلقة بأعضاء الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة. كما أنّ خطاب اوباما، يتعارض مع طرح السيّدة كلنتون، حيث أحال اسباب التغيير الحاصل كنتيجة للقمع ولإرادة الجماهير، فقال: (الولايات المتحدة لم تُخرج شعبي تونس ومصر إلى الشارع، لكن الشعبين المصري والتونسي خرجا للتعبير عن رأيهما). كما تناقض الرئيس أوباما مع القيم والمبادئ الأمريكيّة التي ينادي بها، عندما استعرض قضية البحرين. فلم ينتقد حكومة البحرين لاستخدامها قوات درع الجزيرة، لقمع احتجاجات المتظاهرين البحرينيين الذين طالبوا بالتغيير كحقّ مشروع لهم، وبرر ذلك بالتدخل الإيراني في الشأن البحريني. كما أنّه وعد بدعم مالي كبير سيقدم لمصر وتونس.

إنّي أعتقد بأنّ الإدارة الأمريكيّة، تؤمن بالحتميّة التاريخيّة للديمقراطيّة، وهذا تحوّل في بُنيَة الفكر السّياسي الأمريكي. فسابقاً كانت أمريكا تؤمن بأنّ الأنظمة الدكتاتوريّة السّائرة في الفلك الأمريكي، هي التي تحقق طموحات أمريكا، وعلى هذا الأساس ظلّت أمريكا لعقود طويلة تدعم نظماً شموليّة، قسم منها قضى نحبه (نظام شاه ايران ونظام صدام حسين)، وقسم منها ينتظر لحدّ الآن (انظمة دول الخليج، الأردن، السودان، المغرب). أمّا الآن فتغيّر الحال، فأصبحت أمريكا تؤكّد على قيَم الديمقراطيّة، وتعتبر نفسها راعية للديمقراطيّة في العالم. ووراء هذا التغيير الجذري في الفكر السّياسي الأمريكي، أهداف تنظر إليها الولايات المتحدة الآن، باعتبارها الأكثر تلبية للتطلعات الأمريكيّة في العالم بوجه عام، والشرق الأوسط الكبير بوجه خاص، وفي عصر العولمة بالتحديد. فاذا كانت أمريكا سابقاً، تقدم بعض التنازلات إلى زعماء الدول الشموليّة لتمرير مصلحة أمريكيّة معيّنة، فإنّ أمريكا الآن وبظل النُظُم الديمقراطيّة، لا تقدم أيّة تنازلات لتصحيح وضع معيّن يتعارض مع المصالح الأمريكيّة أو لا يلبيها بالكامل.

فالنُظُم الديمقراطيّة هَشّة جداً أمام التغيير، فبالرغم من أنّ دورات الحكم فيها محددة زمنياً، كذلك أيضاً، إنّ إمكانيّة تغيير زعامات الأنظمة الديمقراطيّة متاحة لأمريكا في كلّ الأوقات، ذلك من خلال عمل الأحزاب السياسيّة، وجماعات الضغط، ومؤسسات المجتمع المدني التي تدعمها أمريكا بالخفاء، وهذا ما أوجزته السيّدة كلنتون في كلمتها القصيرة.

إنّ المرحلة المقبلة ستشهد سيطرة أمريكية على بلدان الشرق الأوسط الكبير، لغرض تحجيم عمل التيارات الإسلاميّة بنوعيها المعتدل والمتشدّد، وتقديم النموذج الديمقراطي المدعوم جيداً بالمساعدات الأمريكيّة، كنموذج جديد لحكم الشرق الاوسط الكبير ومناطق أخرى في العالم، من أجل الوقوف بوجه القوى الثوريّة الوطنيّة وتحجيم تأثيراتها على أرض الواقع.  

* كاتب و باحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/آيار/2011 - 20/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م