الجزيرة والجزرة

نسرين عز الدين

خلال ثورة مصر، حصلت قناة الجزيرة على ما كانت تسعى إليه، تهنئة الإدارة الأميركية على تغطيتها للأحداث. إذن وأخيرا وجدت قناة الجزيرة الإنكليزية جمهورا لها بعد طول مقاطعة.

 كتبت الصحيفة الأميركية التي نقلت الخبر حينها أنه لا يمكن أن يكون هناك شخص أكثر سعادة من عبد الرحمن فقرا مدير مكتب الجزيرة في واشنطن. وعلّق فقرا على "الحدث الجلل" بقوله "من يسعى من الأميركيين إلى فهم الوضع في المنطقة، عليه أن يتوجه إلى القناة".

 حققت الجزيرة ما حققته خلال ثورتي تونس ومصر، وفجأة أصيبت بالعمى حين وصلت الأحداث إلى البحرين. وفي الوقت الذي كانت تهلل فيه لضربات الناتو في ليبيا كانت تتغاضى عن الضربات التي تنهال على المتظاهرين في البحرين بلا هوادة.

 شخصيا كنت من أولئك الذين آمنوا بهذه القناة، وكنت من أشد المدافعين عنها، حالي حال عدد كبير من العرب الذين ظنوا في مرحلة ما أنهم وجدوا فيها صوتا للشعوب. لكن الصورة تغيرت وانقلبت وتحوّلت الجزيرة إلى شيء آخر.. كثير من خيبة الأمل وقليل من المهنية.

 لم تتحدث القناة القطرية كثيرا عن البحرين، وحين تحدثت في مناسبات قليلة جدا وحاولت أن تستضيف شخصيات معارضة عبر الهاتف كان أسلوب مقدمي النشرات "وقحا"، استخفاف واستفزاز ومقاطعة دائمة، فالرأي الآخر لا وجود له في حالة البحرين. وقاحة لم نلمسها حين قررت الجزيرة استضافة ناطق باسم الجيش الإسرائيلي خلال أحداث يوم النكبة الأسبوع الفائت. حينها أعطت القناة لهذا الرجل 15 دقيقة كاملة للحديث بلا مقاطعة تذكر وبلا استفزاز.

 مهلا قالت الجزيرة يومها، سنسمعكم في هذا اليوم تحديدا "الرأي الآخر"، لأن شعارنا يقول إننا الرأي والرأي الآخر، وبينما يطلق رصاص الجيش الإسرائيلي على رؤوسكم وصدوركم، سنسمعكم الرأي الإسرائيلي، لأنه ليس برأي ثابت وليس برأي يعرفه العرب ولن يكون كلاما مكررا سمعه العرب ملايين المرات.

 أمس حين خرج أوباما بخطابه الموجه الى العالم العربي، قررت القناة أن تقوم "بتغطية خاصة".. قبل وبعد وما بعد الخطاب.

 تحدث الرئيس الأميركي وبشكل مباغت عن البحرين، وإن كانت "إفتتاحية" الحديث "إنطلقت من مبدأ "ملتوٍ"، إلا أنه تحدث في دقائق معدودة أكثر مما تحدثت الجزيرة خلال الأسابيع الماضية. صحيح أنه تحدث عن "شرعية قانونية" وحق لبقاء الحكم رغم كل ما يحدث إلا أنه أشار أيضا إلى الإعتقالات والعنف.. فماذا حصل للقناة القطرية في تلك اللحظة؟

 ما حصل أنها تلقفت سريعا جملة "إيران حاولت استغلال الأوضاع في البحرين" ووضعتها في شريطها الإخباري، أما بقية الحديث فلم يجد له طريقا لينضم الى عواجل الجزيرة. إنتهى أوباما من حديثه عن البحرين وإنتقل إلى نقاط أخرى، دقائق طويلة مرّت قبل أن تضع الجزيرة خبرا عاجلا "متأخرا جدا" يتحدث عن ضرورة الحوار الجدي بين المعارضة والحكومة البحرينية.. تأخير قد يكون مرده إلى بلبلة ما اضطر خلالها المسؤول عن إختيار العواجل إلى العودة الى من هو أعلى مرتبة منه كي يقرر ماذا سيختار وماذا سيهمل من حديث الرئيس الأميركي عن البحرين، أو إلى مداولة ونقاش حول ما قاله وحول ماذا ستختار القناة من أقوال لن تخرجها عن خطها المعتمد في تغطية أحداث البحرين والمتمثل بـالإنتقائية حينا وبالتجاهل التام في أحيان أخرى.

 هذا ما تم اختياره عن البحرين، فلا كلمة إعتقالات ولا كلمة عنف ولا كلمة سجون وجدت آذانا صاغية في القناة، بينما كل شاردة وواردة عن سوريا في الخطاب كان تخرج بشكل عاجل على الشاشة وتبقى لوقت طويل.

 نظرية المؤامرة التي تم الترويج لها بقوة خلال التظاهرات البحرينية، إستخفت بها الجزيرة حين وصل الأمر الى سوريا. وتحولت التقارير الإخبارية عن سوريا إلى "ميني دراما" يؤديها المقدم بصوت بكائي حينا وغاضب في أحيان أخرى. وبعيدا عما يحدث فعليا سياسيا وعسكريا في سوريا، دخلت الجزيرة في معركة مع التلفزيون الرسمي السوري. وليس انتقاصا من قيمة أي وسيلة إعلامية، لكن أن تدخل قناة "بحجم الجزيرة" في صراع مع وسيلة إعلامية حكومية، فهذا إخبار لنا، نحن الذين كنا نؤمن بهذه القناة، بأنهم يرون أنفسهم هكذا.. محطة اخبارية عليها أن تتصارع مع إعلام حكومي لتثبت نفسها!.

 تقول الجزيرة إنها تتعرض لهجوم عنيف ولإنتقادات لاذعة، لا وبل تشعر في أحيان عدة بأنها معنية بالدفاع عن نفسها ولو بشكل غير مباشر، فتقوم بوضع خبر في شريطها الإخباري عن ارتفاع عدد المتتبعين لها على صحفة فايسبوك الى مليون.. صحيح أنها تتعرض لهجوم، وصحيح أنه هجوم عنيف لكنه يأتي من جهة تشعر بأنه تمت خيانتها.. من جمهور يشعر بأنه تم خداعه وتضليله، جمهور لجأ إلى هذه القناة بعد أن شعر باليأس من قنوات محلية واخرى عربية تنتهج علنا سياسة الأحزاب والدول الممولة لهم. جمهور رأى فيها، رغم الشوائب الظاهرة في أحيان كثيرة، بعضًا من الأمل في إعلام يسير بين التبعية السياسية وبين نبض الشارع.. وفجأة إنهار كل شيء.

أصبحت وبشكل علني العصا التي تضرب بها قطر على رؤوس من تريد إزاحتهم من دربها وعلى رؤوس من تريد قطر حشرهم في الزاوية من أجل مفاوضات حول ملفات ومن اجل مكانة سياسية عربية وعالمية.

 تحب أميركا سياسة العصا والجزرة، وباتت قطر بدورها مغرمة بهذه السياسة، فها هي الجزيرة تتحول الى عصا بينما تبقى الجزرة معلقة في مكان ما.

 يرى البعض أنه كان للعرب نصيب في ثورة واحدة وهي ثورة الياسمين، وفي ثورة ممزوجة بالسياسة في مصر، أما بقية الأحداث في اليمن وليبيا وسوريا فهي حرب سياسية وقودها الشارع. وكان لنا نحن الجمهور العربي نصيب في إعلام جميل في ثورتين.. وجزيرة بوجهها الحقيقي في البقية.

 وجه ليتنا لم نره ولم نعرف له ملامح ولم نسمع له صوتا...

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 22/آيار/2011 - 18/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م