أسطورة لورنس العرب... البطل اللا بطل

 

شبكة النبأ: ظلت شخصية لورنس العرب شخصية ملهمة، ينظر إليها على أنها شخصية لا يمكن رسم ملامحها وسجاياها بيسر وسهولة،  كما تجسد بنحو نادر المثال التحول من البطل إلى نقيضه، تاركة بذلك بصمات واضحة على أدب القرن العشرين، كما يرى سشتيفان فايدنر، رئيس تحرير "فكر وفن"  في هذه المقالة المطولة.

عند استعادة الماضي، نلاحظ أن هيئته تجسد شيئاً يفوق القدرات البشرية – تجسد شخصية لا يمكن رسم ملامحها وسجاياها بيسر. ومع أن المؤلفات الكثيرة، المختصة بسيرته الذاتية، والروايات الشعبية، المتناولة لشخصيته، تغرينا بأن نرسم ملامح وسجايا شخصيته، بشيء من التبسيط،* إلا أن الحقيقة تؤكد، على أننا هاهنا، إزاء رغبة عصية على التحقيق. من ناحية أخرى، جسدت شخصية لورنس، بنحو نادر المثال، التحول من البطل إلى نقيضه والذي ترك، بصماته على أدب القرن العشرين بلا أدنى شك.

إلا أن توماس ادوارد لورنس، لم يكن من صنع الخيال الأدبي. لقد عاشت وعانت هذه الشخصية حقاً وحقيقةً. وبما أن لورنس كان قد غدا أسطورة في أيام حياته، ولما كان قد حجب شؤونه الخاصة (المتواضعة من حيث ما فيها من جوانب مثيرة وأحداث مهمة) عن تطفل الصحافة، لذا لم يحط الرأي العام علماً، بروحه المتشككة، وبمدى ما تعاني هذه الروح من عذاب. وعلى خلفية هذه الصورة، التي رسمتها له وسائل الإعلام، وهي صورة دأبت على جعله من عالم غير عالم بني الإنسان، استبقت شخصيته الزمن، وراحت تشير بإصبعها، إلى المستقبل محذرة، منذرة، مما يضمره عصرنا.

ومهما كانت الحال، فإن مطاردة الصحافة له، عكرت عليه مباهج الحياة، وأضاعت عليه مرتين فرصة العمل، التي هواها من القلب، أعني عمله في القوة الجوية. ولمرات كثيرة، وحتى قبل فترة وجيزة من وفاته، تعين على لورنس أن يهرب من ملاحقة الصحفيين له، هروب الأميرة البريطانية دايانا، من الملاحقات التي تعرضت لها فيما بعد. وكما توفيت الأميرة دايانا في حادث مرور، توفي لورنس، أيضاً، إثر تعرضه في عام 1935، أي في السادسة والأربعين من العمر، لحادث مرور، كان سببه يعود إلى سقوطه من دراجته النارية، التي كان يقودها بسرعة كبيرة، ليس هروباً من ملاحقة الصحفيين له، إنما هروباً من روحه وذاته.

الشهرة والإعجاب

ومع أن توماس ادوارد لورنس قد كان محط الأنظار في حياته، إلا أن من حق المرء أن يفترض، أن لورنس كان، في العصر الحديث، واحداً من الأناس القلائل، الذين لم ينخدعوا بالشهرة التي نالوها، والصورة التي رسمها لهم الجمهور: كان واحداً من أولئك البشر الذين لم يتخيلوا، في لحظة من لحظات عمرهم، أنهم نالوا الشهرة والإعجاب عن حق واقتدار وأن ما يُروى عنهم، لا يجافي الحقيقة كلية. وكاد لورنس أن يكون متطرفاً في تواضعه وبساطته – ليس في تصرفاته الشخصية، ولكن مقابل الجمهور العام على وجه الخصوص. ومن بين الأمور الأخرى، التي ترتبت على هذا السلوك، يمكننا أن نشير إلى أن لورنس، الرجل الذي كان قادراً على مراكمة المال الوفير وغزو قلوب النساء، قد ظل يعاني من الضائقات المادية بلا انقطاع وقضى حياته بلا أية روابط عاطفية.

وبفعل موقفه الرافض الانفتاح على وسائل الإعلام، والمستهجن إغراءات الثروة والشهرة، يظل لورنس منارة تطل على قرننا الراهن، القرن الحادي والعشرين. فسيرة حياته تكتمل بنحو معكوس، بنحو ما كان يُؤخذ في الحسبان: فرفضه الظهور، أمام الجمهور العام، بمظهر البطل، هو على وجه الخصوص، الأمر الذي يجعل منه بطلاً حقاً وحقيقة، هو على وجه الخصوص، الأمر الذي يجعل منه قدوة للآخرين. وفي هذا كله، فإن الميراث الذي خلفه لورنس للأجيال التالية على جيله، ليس ذا طبيعة واقعية، ليس ذا طبيعة سياسية، أو تاريخية.

وإذا كان قد خلف ميراثاً معيناً، فإن تأثيره السياسي في الشرق الوسط – في البداية، بصفته ضابطاً بريطانياً كلفته بلاده بالاتصال بالقوات العربية المتمردة على الحكم التركي، ومن ثم، بصفته دبلوماسياً شارك في مؤتمرات، كانت ترمي، إلى إعادة رسم خريطة الشرق الوسط، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية – لم يبق منه إلا القليل، أو، وبتعبير أصح، لم يبق منه أي شيء في الواقع. ومن وجهة نظر اليوم الراهن، يمكن القول، أن ميراثه أصبح ذا طبيعة معنوية صرفة. إنه ميراث إنسان دأب، بكل إصرار، على رفض الاتجاه العام، دأب على رفض ما ينتظره منه المجتمع، إنه ميراث إنسان ناضل، تحت وطأة عذابات بينة، ملموسة، من أجل تحقيق القيم التي آمن بها، والأهداف التي كان ينشدها، والمثال العليا التي كان يهتدي بها، محاولاً، بموهبة يتميز بها العباقرة، تحقيق ما كان يناضل من أجله، في العديد من مناطق العالم. وفضل لورنس، الإنسان الذي كان قادراً بيسر أن يكون وفير الثروة المالية، أن يكسب قوت العيش من خلال ترجمة إلياذة هوميروس إلى الإنجليزية نقلاً من نصها الإغريقي الأصلي.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذه الترجمة، لا تزال جديرة بالقراءة، باعتراف الكثير من أهل الخبرة. وكان لورنس قد آثر العمل الميداني في موقع أثري سوري، لسنوات عديدة، وفي ظل ظروف قاسية، على ممارسة العمل الأكاديمي في مدينة أكسفورد، كمحاضر في علم الآثار. وأدرك، في وقت مبكر، ما تقدمه الصور الفوتوغرافية، من فرص كثيرة ومهمة، فكلف أصحاب الشأن بتصنيع آلة تصوير تناسب متطلباته، معروضة الآن في متحف العلوم  في مدينة أكسفورد كأثر يحظي باهتمام وإعجاب الزائرين. وبهذه الكاميرا، استطاع لورنس أن يوثق ما قام به من عمليات تنقيب وما اكتشف من تحف أثرية. وكانت قيادته للثورة العربية على الحكم العثماني، في الحرب العالمية الأولى، قد مكنته من توثيق هذه الثورة، والمناظر الطبيعية في شبه الجزيرة العربية، من خلال صور فوتوغرافية مثيرة للدهشة.

 لورنس العرب....ابن العصر

"لورنس العرب كان يسبق عصره دائماً وأبداً، ولو بخطوة واحدة"  وبإعجابه الشديد بالاكتشافات والابتكارات التكنولوجية الجديدة، كان لورنس ابن عصره فعلاً، كان ابن عصره، ليس بمعنى أنه كان يهرول، وراء هذه الاكتشافات والابتكارات، وليس بمعنى أنه كان يحاول تقليدها، بل بمعنى أنه كان يسبق عصره دائماً وأبداً، ولو بخطوة واحدة. وإذا كان الشاعر الفرنسي رامبو قد كتب عام 1870: "على الإنسان أن يكون عصرياً بلا قيد أو شرط"، فإن الأمر الذي لا شك فيه، هو أن لورنس كان عصرياً بكل المعنى وأن زمالته لأنصار العلوم المختصة بالمستقبليات، لم تكن من محض الصدفة قط.

إن التحرك بسرعة فائقة، حظي بإعجاب لورنس على مدى حقب طوية من حياته، وأنهى هذه الحياة أيضاً. فهو دأب على قيادة أحدث وأفضل الدراجات النارية، التي كانت تنتجها المصانع الشهيرة التابعة إلى الشركة الإنجليزية Brough – علماً بأن قيادة الدراجات النارية هي الهواية الوحيدة، التي كان لورنس يمتع نفسه بها، والتي كان يوظف شهرته من أجلها، حينما لا يكفي ما لديه من مال لاقتناء أحدث موديل. ولما كانت الرحلة بالباخرة، من إنجلترا إلى القاهرة، تستغرق زمناً طويلاً، ولا تلبي طموحه للتحرك بسرعة فائقة، لذا استقل لورنس، برغم المخاطر، طائرة تقادم عهدها منذ الحرب العالمية الأولى.

وإثر هبوط الطائرة بنحو اضطراري، انتهت هذه الرحلة بتحطم الطائرة ومقتل القبطانين وتعرض لورنس لكسر في الترقوة. وانضم لورنس، في الزمن التالي، إلى وحدة من وحدات سلاح الجو، كانت مكلفة بتطوير واختبار قوارب سريعة، كان المراد منها انتشال الطيارين، الذين تسقط طائراتهم في البحار. وكان انضمام لورنس إلى هذه الوحدة قد استرعى انتباه صحيفة Sunday Chronicle. إذ نشرت هذه الصحيفة في الثامن والعشرين من آب/أغسطس عام 1932 تحقيقاً صحفياً بعنوان: "العقيد لورنس: الرجل الذي يقف وراء ما لدى بريطانيا العظمى من طيارات وسيارات وقوارب سريعة." ومع أن الجزء الأعظم من التحقيق الصحفي، كان من محض الخيال، إلا أنه، مع هذا، أزاح الستار، بنحو حدسي، عن واحدة من سجايا لورنس.

لقد كتب روبرت موزيل في روايته "الرجل الذي لا خصال له"، أن من نوادر الأمور، أن بني البشر، ما انفكوا يرون البطل الحق، فارساً يمتطي الجواد – ما انفكوا يربطون بين البطل والجواد، حتى بعدما منح الزمن البطل وسائط للتحرك والتنقل مختلفة كلية. ومهما كانت الحال، فإن لورنس، الإنسان الذي كان بطلاً حقاً وحقيقة، بالنسبة للكثيرين من الأناس، الذي كان، بالنسبة لؤلئك الذين طغى عليهم توق إلى الماضي، الإنسان الذي انبعث فيه بطل العصور القديمة، الذي كان يحارب من على ظهر فرسه أو ناقته (أي ذلك البطل الذي اختفى من الوجود في جعجعة رحى الحرب العالمية الأولى، وما استخدمت من أسلحة مصنوعة من الصلب والحديد)، نعم إن لورنس هذا ربما كان، في عصره، واحداً من الأناس النادرين، الذين استغرقوا في تصورات أولريش، أعني تصورات "رجل بلا خصائص".

وعلى سبيل المثال، ففي عام 1908، أي بعد عام واحد فقط، من أول مرة تُنظم فيها بطولة فرنسا الدولية للدارجات (تور دي فرانس)، وظهور الدراجة الهوائية، كواسطة نقل عصرية، تناسب التنقل السريع، أعد لورنس العدة لمحاكاة "دورة فرنسا الدولية للدراجات" والسفر بالدراجة الهوائية من مدينة لهافر الواقعة على ضفاف بحر الشمال إلى ساحل البحر المتوسط، قاطعاً مسافة تبلغ 3860 كيلومتراً، في مدة استغرقت أربعة أسابيع فقط. وكان الهدف الأساسي (أو الذريعة) من هذه الرحلة المرهقة، المقطعة للأنفاس، هو دراسة هندسة قلاع العصر الوسيط في فرنسا، بصورة علمية. وتحتوي دار لورنس الواقعة في Clouds Hill – وهي دار، لا بل كوخ، موحش، بائس، يفتقر إلى الكثير من متطلبات العيش الرغد – من بين ما يحتويه من قليل الكماليات، على جهاز جراموفون جيد، ومن أحدث طراز كان يستطيع اقتناءه، وعلى كتب ومجموعة كبيرة من الاسطوانات.

ثقافة عالية

وكان الولع بالكتب واحداً من الأمور التي ما كان هذا المتقشف، الغريب الأطوار، قادراً على مقاومتها. وعلى خلفية هذا الولع الجموح، كان لورنس يتمنى، طيلة حياته، أن يغدو ناشراً، متخصصاً بنشر الكتب بطبعات فاخرة. من هنا، لا عجب أن نراه ينشر مؤلفه الرئيسي أعمدة الحكمة السبعة، كاملاً، أي بلا حذف أو اختصار، وبطبعة فاخرة، مكلفة مالياً، وغنية بالصور الملونة، ويعجز عن دفع ثمنها القارئ العادي. ومنعاً للالتباس، نود الإشارة هنا، إلى أن لورنس قد أجاز نشر طبعة عادية، في السوق الأمريكية فقط، وأن هذه الطبعة قد درت عليه الكثير من المال. ويعود تردد لورنس في مسألة نشر مؤلفه الرئيسي، إلى إعلائه من قيمة التأليف الأدبي.  فهو كان، بحسب تصوراته الذاتية، وبناءً على رغبته الجموحة، أديباً في المقام الأول: وفي هذه الناحية من نواحي شخصيته أيضاً، نعثر على مكونات شخصية لورنس: ففي ممارسته التأليف الأدبي، كان لورنس، ضحية عقلانيته، كان، بنحو أو آخر، قد جمع في شخصيته كافكا وماكس برود، الذي نشر مخطوطات كافكا بلا مراعاة لرغبته)، كان، إلى حد ما، شخصية أدبية مضحكة مبكية، شخصية تشكك بمواهبها الذاتية دائماً وأبداً.

وإذا أخذنا بالاعتبار، أن لورنس قد أضاع حقيبته الصغيرة، الحاوية على مخطوطة، كادت أن تكون نسخة كاملة من مؤلفه أعمدة الحكمة السبعة، في صالة الانتظار الكائنة في محطة قطار تابعة إلى قرية صغيرة، وأنه لم يعثر على هذه الحقيبة ومحتوياتها قط، تبدو لنا هذه الواقعة، كما لو كانت واحدة من زلات اللسان، التي أشار إليها سيغموند فرويد، كما لو كانت زلة لسان، اقترفها أديب بلا وعي ومع الإصرار، أديب دأب على تأجيل الانتهاء من كتابة ونشر مؤلفه الرئيسي، المرة تلو الأخرى.

إلا أن ذاكرة لورنس القوية، وهمته العالية، وحماسته المتميزة، انتصرت في نهاية المطاف: فقد كتب، من جديد، كل ما سبق له أن كتبه في المخطوطة الضائعة.

وتنطوي ممارسة توماس ادوارد لورنس عملية التأليف على معنى أخر. فلورنس خطط لكتابة مؤلف بعنوانه أعمدة الحكمة السبعة، في وقت مبكر، أيام عمل منقباً أثرياً في سوريا. وكان قد استقى العنوان من العهد القديم، من أمثال سليمان، الإصحاح التاسع، الفقرة رقم واحد، على وجه التحديد، إذ يرد هناك: "الحكمة بَنَتْ بيتها. نحتت أعمدتها السبعة". وكان لورنس ينوي تأليف كتاب يصف رحلة إلى بلاد الشرق، تأليف كتاب، يتحدث فيه لورنس، باستثناء بغداد، عن كافة المدن، التي تعرف عليها بالعيان: القسطنطينية، القاهرة، سميرنا [إزمير، الحالية]، حلب، القدس، دمشق، بغداد. وحين صدر هذا الكتاب، في وقت لاحق، (عام 1926، بطبعته الفاخرة، وعام 1927 في الولايات المتحدة الأمريكية، بطبعة شعبية مختصرة، وفي عام 1936 كطبعة عادية كاملة) بنفس العنوان، ولكن بمحتوى مختلف، بمحتوى يتناول وقائع الحرب، كان لورنس قد غدا شخصية شهيرة، ذائعة الصيت، وكان الكتاب قد بات، خلافاً لمعايير لورنس الأدبية، مذكرات تسرد الوقائع الحربية، مثلها في ذلك، مثل مؤلفات أخرى كثيرة، تناول فيها مؤلفوها الوقائع الحربية بمستويات أدبية متباينة، وأغرقت بها دور النشر المختلفة الأسواق بعد نهابة الحرب العالمية.

أضف إلى هذا، أن مؤلف لورنس كان قد جسد، أيضاً، نوعاً من أنواع أدب السيرة الذاتية، جسد، أيضاً، السيرة الذاتية لشخصية ذائعة الصيت – وبالتالي فإنه، أعني مؤلف لورنس، ما كان أدباً رفيعاً، يتناول سيرة مستوحاة من وحي الخيال، بل كان مؤلفاً يستعرض، عن كثب، وقائع تاريخ معاصر، ويرسم صوراً لشخوص حقيقيين، معروفين، كان لورنس محقاً، فعلاً، حين خشي أن تؤدي الصور، التي يرسمها لهم، إلى توريطه في خوض نزاعات معهم (أو لنقل: أنها ورطته، فعلاً، في خوض نزاعات معهم).

إلا أن ثمة جانباً آخر أكثر إشكالية: فبنحو لا مفر منه، تعين على المذكرات المتناولة للوقائع الحربية بأسلوب أدبي رفيع، والمكتوبة بقلم بطل، خاض غمار الحرب، وذاع صيته في كل الآفاق، أن تكتسب الشهرة من شهرة بطولات مؤلفها وأن تزيد من شهرة هذه البطولات أيضاً. وما من شك في أننا هاهنا، إزاء ظاهرة جديدة، حقاً وحقيقة: فالبطل بات يكتب مذكراته بنفسه، حاله في ذلك، حال ما يفعله، في اليوم الراهن، كل من يرى في نفسه، أنه صار من مشاهير بني البشر، أو حال من يكلف شخصاً آخر، بكتابة سيرته الذاتية، باسمه. ومن نافلة القول الإشارة هنا، إلى أن لا أحد مما لدينا من نجوم وأبطال وسياسيين ومشاهير أو مما لدينا من كتاب يؤلفون لأشخاص آخرين يزعمون، فيما بعد، بالباطل، بأنهم هم المؤلفون، يستطيع الكتابة بالأسلوب الرفيع، الذي نلمسه في كتابات توماس ادوارد لورنس.

إلا أن هذه الحقيقة، لا تغير شيئاً، في الإشكالية التي تنطوي عليها أعمدة الحكمة السبعة، أعني كونها مذكرات، تتناول وقائع حربية تارة، ومؤلف أدبي، رفيع المستوى والأسلوب، تارة أخرى.  بيد أن هذا الكتاب أكثر من سيرة ذاتية، ومؤلف أدبي: فمن بين السطور، يلمس القارئ، دفاعاً سياسياً عن حق العرب بالاستقلال، ويستنتج إدانة قوية، للاستعمار البريطاني، ويعيش أجواء احتفاء مشهود، بالتضاريس الطبيعية في شبه الجزيرة العربية، ويسمع تغنياً صادقاً بأسلوب الحياة البدوية، ويكتسب صورة لا محل فيها لأية ضغينة دينية، أو لأي عداء للإسلام. وهذا التنوع، هو الأمر، الذي يجعل من أعمدة الحكمة السبعة، مؤلفاً يستحق القراءة، في يومنا الراهن أيضاً، يستحق القراءة، من غير أن يرى المرء فيه، قمة من القمم الأدبية بالضرورة. ومهما كانت الحال، فبمؤلفه هذا، جعل لورنس من نفسه، سواء عن قصد أو بلا قصد منه، أسطورة ترنوا إليها الأبصار. وعلى ما يظهر، كان الأمر قد بدا له مختلفاً اختلافاً كلياً: فإن لم يكن لورنس قد أراد تفنيد التصورات، بشأن خصائصه الأسطورية، تفنيداً تماماً، فإنه أراد وضع هذه التصورات في نصابها على أدنى تقدير. فكما سبق أن قلنا، فإن هذه التصورات كانت، بالنسبة له، قد غدت عبئاً لا يُحتمل. وفي الأصل، كانت نشأت التصورات المتحدثة عن خصائص لورنس الأسطورية، جزءاً من الدعاية، التي اعتمدتها أبواق الدعاية الرسمية، إبان الحرب. ويجري التنويه بهذه القصة في الفيلم السينمائي الشهير العائد إلى عام 1962 (إخراج: دفيد لين)، والذي لعب فيه الممثل البريطاني الكبير بيتر أوتول شخصية لورنس.

الجانب الأمريكي

ومن أجل كسب تأييد الجمهور الأمريكي – علماً بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد شاركت في الحرب عام 1917 – للقضية التي يحارب الحلفاء من أجلها، أرسلت وزارة الحربية البريطانية فريقاً صحفياً إلى القاهرة، مكلفاً بتوثيق الصراع، الدائر من أجل تحرير القدس، والأراضي المقدسة، من قبضة العثمانيين، المتحالفين مع ألمانيا. فالحرب الدائرة رحاها في هذا الميدان، كانت تفصح عن منظور أكثر إيجابية، مقارنة بالخسائر المادية الفادحة، التي رافقت الحرب الدائرة رحاها في الجبهة الغربية. وكانت القيادة العسكرية في القاهرة، قد اهتدت من ثم، إلى فكرة إرسال مصور ومراسل صحفي، إلى شبه الجزيرة العربية، ليرافقا الجيوش العربية المتمردة والضابط توماس ادوارد لورنس، الذي كان مكلفاً بالتنسيق مع هذه الجيوش.

وكان الصحفي المسمى لويل توماس والمصور المرافق له، قد أدركا في الحال، ما تنطوي عليه عمليات لورنس من قيمة إعلامية (كما يشهد على هذه الطرفة الفيلم السينمائي، أيضاً، أعني الفيلم المعروف باسم لورنس العرب). على صعيد أخر، كان لورنس قد غدا شخصية، يتردد اسمها كثيراً في الصحافة الأوربية، بعد عام 1918، أي بعد استيلاء الجنرال البريطاني أللنبي على القدس. فمنذ هذا الحين، كان لورنس قد تحول، حقاً، إلى بطل محارب، إلا أنه ما كان بعدُ، الرجل الأسطوري، والنجم الساطع، في وسائل الإعلام. إنه غدا هذا كله، إثر النشاطات التي مارسها لويل توماس، بعد انتهاء الحرب.

فبما كان لديه من صور ديابوزتيف ملونة (Diapositiv)، كان لويل توماس يتوافر على المادة الضرورية، لتلبية تنامي رغبة الجمهور بعد انتهاء الحرب - التي كبدت خسائر فادحة في الأرواح والأموال - لروية معنى إيجابي في هذه الحرب ولمشاهدة بطل من طراز أبطال العصور القديمة. وبهذا المعنى، فإن أسطورة لورنس، لم تنشأ جراء أداء عسكري، يفوق العادة (نقول هذا حتى وإن كان البعض يسعى جاهداً لإظهار هذا الأداء بهذا المظهر)، بل كانت حصيلة وسيلة إعلامية جديدة، كان لورنس، نفسه، قد أولع بها أشد الولع: التصوير الفوتوغرافي.

وعلى خلفية الصور التي جمعها من رحلته في الشرق الأوسط، راح توماس يلقي محاضرات توثقها أحدث وسائل عرض صور الديابوزتيف. وكانت سلسلة المحاضرات قد بدأت في الرابع عشر من آب/أغسطس عام 1919، في دار الأوبرا الملكية المسماة Covent Garden. وفي الثاني من تشرين أول/أكتوبر عام 1919، كتبت الديلي تلغراف: "من خلال الصور التي عرضها على الجمهور، أسبغ مستر لويل توماس على لورنس، صفة الإنسان المتميز، بكل تأكيد." وهكذا، نشأت، من الآن فصاعداً، أسطورة لورنس.

وفي غضون أربعة أشهر، زار هذه المحاضرات، في لندن، أكثر من مليون من بني البشر، بما في ذلك أفراد من العائلة المالكة وقادة سياسيون كثيرون. وفي السنين التالية، استمع إلى هذه المحاضرات، ما يقرب من أربعة مليون فرد! وبحسب ما كتبه مؤلف سيرة لورنس، أعني جيريمي ولسون، "رأى المرء في حملة فلسطين <أخر حملة صليبية>. وتأسيساً على هذا المنظور، رأي لورنس، أنه قد بات يُدفع، دفعاً لا قوة له على مقاومته، للعب دور البطل القومي." وبالنسبة إلى لويل توماس، كانت هذه المحاضرات، ينبوعاً مالياً لا ينضب. ونأى لورنس بنفسه عن الضجة الدائرة من حوله، إلى أقصى حد ممكن. وفي العاشر من كانون ثاني/يناير من عام 1920، كتب إلى واحد من معارفه اسمه موراي قائلا: "إنها (يقصد المحاضرات) قد بلغت، أقصى درجات البشاعة، والمقت، وباتت تعكر عليَّ صفو الحياة، وذلك لأني لا أمتلك المال الكافي، ولا تساورني الرغبة الضرورية، لمواصلة لعب الدور، الذي صورني به، أعني دور الدجال. وكان (يقصد لويل توماس) قد ناشدني، أن أراجع مخطوطاته، إلا أن رجاءه هذا كان، بالنسبة ليَّ، أمراً مستحيلاً، وذلك لأني ما كنت سأوافق، ولا حتى على عشرة بالمائة، مما جاء في المخطوطات.

[...] فالمراجع ما كان يعلم أين يبدأ في تصويب المعلومات الزائفة". وكانت المحاضرات قد تعزز صداها، بفعل مؤثرات أخرى، مؤثرات حقاً ما كان لورنس دور مباشر في نشأتها، إلا أنه ساعد على نشأتها بنحو غير مباشر، وبلا قصد منه. فعزوفه عن التحدث إلى الصحافة، ترك الألسن تتداول الإشاعات بلا انقطاع. فلورنس كان قد رفض حتى طلب الصحيفة المرموقة التايمس لإجراء حديث صحفي معه، وذلك بتبرير جاء فيه: "إني أعتذر عن إجراء اللقاء الصحفي. فأنا لا أهتم أبداً، بما يزعم الناس بشأني أو بما يقولونه عني، إني أتفادى كلية، مساعدتهم في هذه المناحي، ولن أدلي برأيي في هذا كله أبداً. إنه لأمر محرج فعلاً، أن يقرأ المرء اسمه على صفحات الجرائد – ومع أن لويل توماس يعرضني على الجمهور بأسلوب مؤدب ينم عن لطف ومجاملة، إلا إني أتمنى من القلب، أن يتركني خارج عروضه المسرحية.

لورنس العرب....الاسم المستعار 

وكيفما اتفق، الأمر البين، هو أن فضول الصحافة، قد ازداد كثافة، بفعل تكتمه على ما ينوي عمله مستقبلاً. واستناداً إلى موافقة القيادة العسكرية، عاد لورنس، عام 1922، إلى العمل في صفوف القوات المسلحة باسم مستعار وبصفته جندياً بسيطاً في السلاح الجوي (علماً بأنه كان برتبة عقيد إبان الحرب). وحين تعرف الناس على حقيقة الشخص المتخفي خلف الاسم المستعار، تصاعدت كثافة الشائعات وتعين، في صيف عام 1928، نقل لورنس إلى وزيرستان في الهند التابعة إلى التاج البريطاني، أي نُقِلَ إلى المنطقة الحدودية، المجاورة لأفغانستان. وعندما تسرب الخبر إلى وسائل الإعلام، كان بوسع الجمهور أن يقرأ في صحيفة Evening News الصادرة في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1928 خبراً مفاده: "لورنس العرب في مهمة سرية. يكافح ضد الناشطين الحمر في البنجاب. ويتقمص هيئة رجل دين يعَزَّم ويُشفي المرضى".

وحين اندلعت الثورة في أفغانستان فعلاً، بعد أسابيع وجيزة من وصول لورنس إلى الهند، تصاعدت كثافة الشائعات إلى حد، دفع البريطانيين لأن يسحبوا لورنس من المنطقة الحدودية. وفي الحقيقة، فإن لورنس لم يكن في أفغانستان قط، بل راح، من ثكنته النائية، يترجم إلياذة هوميروس من جديد، ونقلاً عن اللغة اليونانية القديمة – وبهذا المعنى، فقد عرت الحقيقة زيف هذه الشائعات بنحو نادر الوقوع فعلاً. وحين عاد لورنس إلى بريطانيا، كان في انتظاره في الميناء، حشد من الصحفيين.

على صعيد آخر، أثارت مشاركته، التالية، في تطوير قوارب الإنقاذ السريعة، بتكليف من السلاح الجوي، التكهنات والإشاعات ثانية، كما هو بين من محتوى التقرير الصحفي المنشور حول "العقيد لورنس، الخبير العامل باسم الحكومة في مجال السرعة الفائقة". وربما انطوى الأمر على معنى خبيث، إلا أن الحقيقة البنية، تشهد على أن وفاة لورنس المبكرة، إثر تعرضه لحادث مرور أودى بحياته في العام 1936، قد أحاط شخصيته، أكثر فأكثر، بالغموض والمأساوية. وحضر مراسيم دفنه رموز الحياة السياسية والاجتماعية في بريطانيا، بما في ذلك ونستون تشرشل.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية - وما تلا هذه النهاية من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، هذه الخريطة ألتي أنهت، كلية، أخر ما مارس لورنس من جهود عملية في سياق حملته في بلاد العرب - ومع ظهور أبطال جدد في الساحة، وولادة وسائل إعلام ذات تأثير واسع، كان ممكناً أن تفقد أسطورة لورنس، الكثير من بريقها. إلا أن الحقيقة تبين، أن وسيلة إعلامية مختلفة قد تكفلت، بأن تواصل الأسطورة وجودها: الفيلم السينمائي، أو لنقل، الفيلم السينمائي التاريخي، الذي أنتجته هوليود، بأسلوب فني رفيع المستوى، بأسلوب يكاد أن لا يكون له مثيل في اليوم الراهن، وبأشهر ممثلي ذلك العصر، بممثلين كانوا قد غدوا، هم أنفسهم، أساطير: أليك غينيس وبيتر أوتول وعمر الشريف وأنتوني كوين.

ومن اللحظات الأولى للفيلم، يلمس المشاهد سعي الفيلم لإتباع الأسلوب الكلاسيكي: فعلى مدى خمس دقائق، يرى المرء شاشة سوداء لا غير، شاشة تؤدي الدور المطلوب أن تؤديه الافتتاحيات الموسيقية، التي تُعزف، قبل رفع الستار، في الأوبرات المختلفة. وما من شك في أن فليماً من هذا القبيل، يعيد الحياة إلى أسطورة لورنس، يعيد الحياة إليها، في هذه المرة، أمام جمهور أكبر عدداً، وبواسطة وسيلة أكثر ديمومة، مقارنة بالجمهور الذي عاصر لويل توماس، والمحاضرات التي ألقاها توماس هذا. بيد أن فكرة إخراج فيلم يصور حياة لورنس، لم تكن من بنات أفكار عصر السينما سكوب.  ففي وقت مبكر، في الثلاثينيات، اتصل أحد المخرجين السينمائيين بلورنس ليسأله، ما إذا كان يوافق، على إخراج فيلم، يصور ذكرياته عن وقائع الحرب. وكما كان متوقعاً منه آنذاك، رفض لورنس هذا الطلب جملة وتفصيلاً. وليس ثمة شك في أن موقفه ما كان سيختلف، لو كان هذا الموضوع قد عُرض عليه في وقت لاحق، أعني في الزمن، الذي أُخرج فيه فيلم "لورنس العرب".

فمن الناحية النظرية، أي لو لم تعاجله المنية في وقت مبكر، كان من الممكن جداً، أن يعايش لورنس إخراج الفيلم الجديد. ومهما كانت الحال، الأمر الذي لا يطوله الشك، هو أن هذا الفيلم تفوق على كافة الروايات الشعبية عن لورنس، من حيث دقة المعلومات ورهافة الإحساس. وبنحو غير متوقع من فيلم تخرجه هوليود، نجح فيلم "لورنس العرب" في القضاء - وليس في خلق - التصورات المتحيزة والأساطير الزائفة. فبهوادة، ولكن بنحو لا يخفي عن الأنظار، يتركنا الفيلم نلمس - من خلال بطل الفيلم، الممثل القدير بيتر أوتول – تشكك هذا البطل بنفسه وسخطه على ذاته.

عالم الدراما

 وإذا كان الفيلم، الرامي إلى مخاطبة الجمهور العام، قد نجح في إظهار هذه الشخصية، بمظهر الإنسان المحطم، أي بمظهر الإنسان، الذي لا يتوافق، دائماً وبالمعنى الإيجابي، مع ذاته، فما من شك، في أن ذلك يشير إلى تنامي الوعي، في القرن العشرين، بنقيض البطولات. وفيما كانت غالبية الجمهور، لا تزال تتمنى أن ترى، في لورنس أيضاً، بطلاً من أبطال العصور الغابرة، أصبح بالإمكان أيضاً- بدفعة واحدة، وبنحو ما كان قابلاً للتحقق أيام كان لورنس لا يزال على قيد الحياة –  إزاحة الستار عن المادة المضادة الكامنة في هذه الشخصية.  ومنذ ذلك الحين، ما برحت أسطورة لورنس تمتلك القوة، التي ترشحها لأن تواصل وجودها في القرن الحادي والعشرين أيضاً، لأن تواصل وجودها، بمعنى مختلف، طبعاً، عن المعنى الذي كانت تعنيه هذه الأسطورة في الأصل، لأن تواصل وجودها كأسطورة من أساطير التمرد والعزلة، والتشكك والزهد – أي تواصل وجودها بقيم، ما عاد لها، في المجتمعات الغربية المعاصرة، لا نصير يدافع عنها، ولا وسائل إعلام تتبناها.

ولا نجافي الحقيقة كثيراً، إذ قلنا إن مزاج لورنس وأخلاقيته، وصرامته مع نفسه وزهده بالمسائل الجنسية على وجه الخصوص، شديدة الشبه بالطالبان، وليس بالجيوش الغربية، التي تحارب الطالبان، مستخدمة أحدث المعدات العسكرية. إلا أن هذه الطُرْفَة، المثيرة للعجب، لا يجوز أن تحجب عن ناظرينا، أن لورنس كان، في عصره، بريطانياً حتى العظم، وتبقى هذه الحقيقة قائمة، حتى إذا أكدنا، أنه كان بريطانياً منكوداً، بريطانياً معتزلاً، وذلك، وفي المقام الأول، لأنه أخذ الثقافة والعقلية البريطانيتين، مأخذ الجد، وبنحو يكاد أن يكون ساذجاً: قيمهما – وقيم نفسه أيضاً – بناءً على المثل العليا، التي تنطويان عليها: أي أنه استسلم، استسلاماً تاماً، لاعتقاد كفيل بجعله قنوطاً، كئيباً، مستاءً من مجتمعه دائماً وأبداً.

وإذا كان لورنس لا يزال، حتى اليوم الراهن، يجسد قدوة للآخرين، فليس بوصفه الإنسان، الذي جعلت منه وسائل الإعلام بطلاً متعاظماً، منفوخ الأوداج، ليس بصفته الإنسان، الذي صوره لنا القرن العشرون، بل بصفته الإنسان المثالي، بصفته الإنسان الساخط، الإنسان الخائب أمله، المضيع أحلامه، الإنسان الذي، نذر حياته لأمر، كان، هو نفسه، يؤمن به بشك ولا يطمئن إليه بلا ريب، وظنون. إن لورنس، بصفته نقيض البطل، كان أكثر من بطل سلبي، محطم الآمال. ففي المقام الأول، فإن لورنس البطل، الذي أساء المرء فهمه، وأخطأ في سبر غوره، وعجز عن تشخيص روحه، إنسان، ما كان يستطيع، تحديد هويته، من خلال الدور الذي نهض به، إنه ليس ذلك الإنسان، الذي يبدو لنا.

وفي هذا التباين بين الظاهر والكائن، تكمن الخاصية الأساسية، التي تتميز بها شخصية من هذا القبيل. ولا يكمن الشرط الأساسي، لهذا التباين، في اتساع رقعة التباعد بين الصفة والموصوف، أعني، لا يكمن، في سياق ما نحن في صدى الحديث عنه، بين المحتوى الظاهري للبطولة أو الأسطورة، وبين ما يشعر به البطل نفسه، بصفته مادة هذه الأسطورة. وبهذا المعنى، فإن الشرط الضروري لهذا التفريق بين الأمرين، لا يكمن – هنا على أدنى تقدير - في حقيقة الحرب، بل فيما سُيكتب وسيُقال عن الحرب. أي وبعبارة أخرى، أن تطور وسائل الإعلام (الجماهيرية)، هي التي تؤدي، أكثر فأكثر، إلى أن تصبح الصورة (أو الإشاعة أو الأسطورة) قائمة بحد ذاتها، مستقلة بنفسها، تغذي ذاتها بذاتها، ولا علاقة حقيقية تربطها، بالشخص أو الشيء، الذي ينبغي بها أن تجسده قلباً وقالباً، أن تمثله حقاً وحقيقة.

إن العرض، بواسطة الصورة، أو الكلمة، أو من خلال المحاضرة المستعينة بالصور الديوبوزتيف، كما لاحظنا في حالة لورنس، يستقل بنفسه، يغدو غاية في ذاته، ليست له سوى علاقة مزعومة، بالشخص أو الشيء، الذي يدور حوله العرض. وتتضح لنا هذه الحقيقة بجلاء، في محاضرات لويل توماس. فما قاله توماس عن لورنس، ما كانت له، لا من قريب ولا من بعيد، علاقة بلورنس نفسه، بل عكس، في المقام الأول، أماني وتصورات الجمهور المستمع إليه – لا سيما أن ما قاله توماس قد جاء بعدما حطمت آلة الحرب العالمية الأولى الأبطال. وربما كانت فكرة الأنا-البطل قد راودت لورنس حتى عام 1917.

بيد أن هذه الفكرة قد تحطمت كلية، في سياق تعرضه للضرب بالسوط، على أبعد الفروض، في سياق عملية الجلد، التي تحدث عنها في أعمدة الحكمة السبعة، بأسلوب قوي التعبير. ففي سياق رحلته الاستطلاعية إلى درعا، إلى هذه المدينة السورية، التي كانت نقطة تلاقي مهمة بالنسبة لسكك الحديد، ألقي الأتراك القبض على لورنس. وكان من حسن حظه، أن الأتراك، الذين كانوا قد تعهدوا، بدفع جائزة مالية، سخية فوق العادة، لمن يسلمهم لورنس حياً أو ميتاً، لم يتعرفوا على هويته. ومهما كانت الحال، ففي سياق عملية استجوابه، تعرض لورنس للجلد، وأحس، بحسب ما كتبه، أن "ذاته بمجملها، قد أخذت تتكسر وتنهار، شيئاً فشيئاً. ومنذ هذه اللحظة، على أقصى حد، كان لورنس قد أصبح إنساناً ممزق داخلياً، وبات يشعر، أن تمجيده وإكبار شأنه، عمل زائف، وفعل باطل.

وكيفما اتفق، الأمر الذي لا شك فيه، هو أن وضع حد فاصل، بين ما هو ظاهر في العلن، وما هو من صلب السجية الحقيقة، أن وضع حد فاصل، بين الصورة والشخص أو الشيء الذي تمثله هذه الصورة، يفعل فعله، بلا أدنى شك، في كل عرض إعلامي، يرمي أن يكون شيئاً آخر، غير العمل الفني القائم بذاته. وتسري هذه الحقيقة، على كل محاولة تسعى إلى عرض العالم العربي بالصورة أو بالفيلم. إن التعميمات غير الواقعية، السائدة في العالم الغربي، بهذا الشأن، شوهت الحقيقة منذ قديم الزمن، شوهتها ليس عن سوء قصد، بل لأن العرض الإعلامي للحقيقة، يُقلص معلوماتنا أكثر فأكثر، كلما كنا أكثر جهلاً بحقيقة المادة المعروضة، أي كلما كنا أكثر عجزاً عن تكملة العرض الناقص، من خلال تصوراتنا ورؤانا. ولا شك في أن التقارير المذاعة في محطات البث التلفزيوني حول الصراعات المختلفة في الشرق الأوسط، خير دليل على ما نقول.

بيد أن صور بوريس بيكر الفوتوغرافية، المعروضة في هذا الدليل، تنتهج السبيل المعاكس، فهي لا تحشر الآثار، التي خلفها لورنس العرب، في تصورات مسبقة، من نسج الخيال، أو في التوقعات، التي حرضت عليها أسطورة لورنس، بل هي تسبغ على هذه الآثار نوعاً من الصمت وتتركب للمهتمين شيئاً من حرية التفسير. وكما نأى بنفسه لورنس، الإنسان الذي بات بطلاً بلا إرادة منه، عن الظهور أمام الخَلّقِ، وعن تشجيعهم على تصوراتهم المتسرعة، تنأى بنفسها هذه الصور الفوتوغرافية أيضاً، عن توقعات مسبقة.

إن ما يبدو أمراً مأساوياً بالنسبة لتوماس ادوارد لورنس، أعني الإشاعات التي دارت حوله، بسبب رفضه الإدلاء برأيه وتفنيد ما يردده البعض من مزاعم عارية عن الصحة، يبدو في صور بوريس بيكر الفوتوغرافية عن لورنس، القوة الضرورية لحرية التفسير، القوة التي تحرض على التفسير. بهذا المعنى، فإن قوة هذه الصور تكمن في أنها لا تجبر المشاهد على تبني تفسير معين. فالصور تستغني عن البوح بشيء ملزم عن شخصية الإنسان المصور فيها، تستغني عن البوح بشيء من هذا القبيل، برغم دقتها وموضوعيتها.

إنها لا تعفينا من ممارسة التفسير فحسب، بل هي تحرضنا على ذلك. وأكاد أن أجزم، أن توماس ادوارد لورنس، كان سيرى نفسه في هذه الصور، لو قُدر له أن يراها في يومنا الحاضر، وذلك لأنه لا يظهر فيها أصلاً، أو، لنقل بعبارة أكثر دقة: حقاً اختفى لورنس عن الظهور في هذه الصور، إلا أنه، مثله في ذلك مثل كل شيء ضائع، موجود في الحيز الغير مرئي. وبهذا النحو، أعني من خلال ظهور لورنس في هذه الصور، بمظهر الإنسان الحاضر-الغائب، يتحقق، بأسلوب متمدن، الأمل القديم، الذي راود التصوير الفوتوغرافي في بداياته الأولى: القدرة على إظهار أرواح الموتى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19/آيار/2011 - 15/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م