في لحظة الخوف والتخبط تأتي الاحلاف السياسية عادة سريعة ومبهمة
لانها تكون وليدة لحظة تاريخية عسيرة مضطربة، وهذا بالفعل كان حال حلف
بغداد عام 1955 حيث جمع هذا الاتفاق ملك العراق الهاشمي ورئيس وزرائه
نوري السعيد ورئيس وزراء تركيا حينها عدنان مندريس ونظيريهم في باكستان
وايران تحت مظلة الامبراطورية البريطانية وهي تلفظ انفاسها الاخيرة.
رفضت سورية الانضمام وكذلك الاردن وبعد الحلف بسنوات قليلة سقط عرش
العراق ولم يستطع حلف بغداد ان يكون سفينة النجاة. وبعد اكثر من نصف
قرن نحن اليوم بصدد الخبر المفاجئ وهو مشروع انضمام الاردن والمغرب الى
مجلس التعاون الخليجي، حيث اعلن عن المشروع في الرياض. وبين مؤيد ومرحب
في الدول المعنية ومعارض ومستنكر ومتحفظ تعالت الاصوات والتحليلات،
منها ما هو غير مقنع ومنها ما هو خيالي ومنها ما هو معقول.
استحضار المنظومة الاقتصادية وأهميتها ربما يكونان من أسوأ
التفسيرات لهذا الحلف الجديد حيث تستطيع دول الخليج اليوم وبدون حلف ان
تمتد استثمارياً وتمويلياً في العالم العربي كله. ومشاريع الاستثمار
الخليجية في الاردن والمغرب قائمة على قدم وساق. فالرأسمال الخليجي يمر
عبر الحدود من دون تأشيرة بل هو مطلوب وبإلحاح من قبل الدول المستقبلة.
اما مرور اليد العاملة في الاتجاه المعاكس اي من الاردن والمغرب الى
دول الخليج فهذه مسألة فيها نظر.
الدول الخليجية كلها تعاني من بطالة رهيبة عند الشرائح الشبابية وقد
بدأنا نرى تداعيات هذا في السعودية وعمان والامارات وغيرها، لذلك لن
تفتح الحدود لاستقبال العاطلين في بلادهم هذا بالاضافة الى ان معظم دول
الخليج قد قررت منذ الثمانينات ان تتجه الى آسيا طلباً لليد العاملة،
ورغم وجود اعداد هائلة من اليد العاملة العربية في هذه الدول الا ان
الاحصاءات المتعلقة بالهجرة تثبت من دون شك محاولات تقليص اليد العاملة
العربية واستبدالها بالعمالة الاسيوية، ولهذا اسباب سياسية بحته خاصة
فيما يتعلق بالولاءات والمعتقدات السياسية لليد العاملة العربية، حيث
تظل هذه الشريحة المهاجرة موضع شك وريبة ومعرضة للطرد في اية لحظة حسب
الاهواء السياسية والمواقف المعلنة للانظمة فتعاقب هذه اليد العاملة
على مواقف زعامتها وتطرد بدون عودة وهذا ما حصل للفلسطيني في الكويت
واليمني في السعودية واللبناني (حسب طائفته) في الامارات والبحرين
وربما سيكون ذلك مصير السوري قريباً. ونعتقد ان حلف الخليج الجديد كان
من تصميم وتنفيذ النظام في الرياض حيث نجد استقبالاً فاتراً في الكويت
وعمان وقطر يختلف عن الحماس السعودي.
نفهم توجس الكويت وعمان وقطر ولكن نعتبر الحماس السعودي مظهراً من
مظاهر الارتباك حيث يشعر هذا النظام بالخطر القادم في مرحلة عربية يعاد
فيها رسم السياسات والحسابات. مشروع الرياض المتسارع هو فقاعة اعلامية
معهودة في ظرف استثنائي. يعلم الجميع ان باستطاعة النظام السعودي
استقدام العون العسكري والاستخباراتي لقمع اي تململ داخلي تماماً كما
حدث عام 1979 عندما انفجر العنف في مكة المكرمة على خلفية حادثة جهيمان
العتيبي، فكانت المساعدات الاردنية باشراف المخابرات والقوات الفرنسية
وتنسيق رئيس المخابرات السعودية تركي الفيصل حينها، القوة التي انهت
حادثة الحرم ولم يكن على السعودية سوى دفع الفاتورة حيث ان النظام
بقدرته الشرائية يستطيع ان يعتاش ويؤمن حمايته عن طريق بلاك وتر تختلط
فيه الاجناس، فبالاضافة الى استقدام المهارات العربية هو بموقع مالي
يسمح له بدفع فاتورة الجيش الامريكي لحماية العرش السعودي وآبار النفط
المرتبطة به. ورغم ان العون الامريكي لا يصلح بطريقة مباشرة لقمع
الحراك الداخلي كالمظاهرات الا انه عادة موجه للخارج، اما الداخل
السعودي فهو الساحة المثالية لتفعيل احلاف عسكرية عربية ـ عربية من
منطلق تعريب مبدأ بلاك وتر.
تحتاج الانظمة المغلقة غير المتصالحة مع شعبها الى آلة قمع تواجه
المجتمع، وفي السعودية يبدو ان تركيبة القوات المسلحة والاستخبارات
وغيرها من قوات طوارئ وشرطة قد تفتح الباب على مصراعيه امام مواجهات
غير معروفة العواقب خاصة وان التركيبة القبلية لهذه القوات قد تكون
عامل فرقة وليس وحدة خاصة وان هي اضطرت ان تطلق النار على مجتمعها.
فتحيد هذه القوات عند ساعات الحسم ويستعاض عنها بقوات خارجة عن النسق
الاجتماعي لتكون اكثر صرامة وبطشاً، وقد اعتمدت السعودية على مثل هذه
السيناريوهات الخارجية وكانت باكستان خير مصدر للخبرات العسكرية التي
تستفيد منها السعودية، لكن الاعتماد على الخبرات العربية قد يكون خياراً
افضل في بعض المهمات الامنية والاستخباراتية، ومشروع حلف الرياض الجديد
يضفي بعداً مؤسساتياً اكثر انضباطاً من العلاقات التاريخية القائمة على
معونات عسكرية حسب الطلب ووفقاً للمرحلة. فالحلف ضروري لانه اكثر
استقراراً وتفعيلاً من سابقاته خاصة وان المرحلة العربية المتمثلة
بالحراك الشعبي العارم تتطلب الحفاظ على استقرار ملكيات تدعي انها اكثر
حضارة وتقدماً من الجمهوريات في مجالات حقوق الانسان والمشاركة الشعبية.
لكن هذا التباعد بين الجمهورية والملكية هو من اختراع الانظمة
المرتجفة اليوم والتي تحاول اقناع شعبها والعالم انها مراكز الحكمة
وبعد النظر، ولكن نجد ان هذا الخطاب كان قد اندحر عندما قال سعد الدين
ابراهيم كلمته المشهورة وهي ان العالم العربي وخاصة مصر هو في صدد
'جملوكيات' وان كان ذلك تصويراً لمصر تحت حكم مبارك حيث ظهر مبدأ
التوريث واضحاً وصريحاً، الا انه ينطبق على الملكيات التي تحاول ان
تقنع شعبها انها اكثر ديمقراطية من الجمهوريات. وان كانت مصر تتجه نحو
التوريث الا انها في لحظاتها الحالكة خلال الثلاثين عاما الماضية
اختلفت بشيء واحد عن المكيات والجملوكيات. الاختلاف ينبثق من كون مصر
البلد الوحيد الذي كانت مؤسسته العسكرية مبنية على مبدأ المؤسسة
القديمة وان امتزج العسكر بالسياسة منذ عام 1952 الا ان مأسسة العسكر
استطاعت ان تبتعد عن النمط المتبع في دول الخليج الست زائد الملحقات
الجديدة.
ما يجمع الحلف الجديد ليس الشراكة الاقتصادية كما تروج ابواق النظام
السعودي بل هو طبيعة المؤسسات العسكرية القائمة على مبدأ
الباتريمونيالية اي الولاءات المشخصنة لشخص الحاكم، حيث تنصهر المؤسسة
العسكرية في العائلة المالكة الحاكمة ويكون ولاؤها مرتبطاً بكونها
تتكون من شرائح قبلية او اجتماعية ترتبط بالنظام مباشرة وليس بمؤسسة
عسكرية مستقلة عن السياسة وممارستها.
مثل هذه التركيبات العسكرية تكون غير قادرة على اتخاذ موقف محايد
بين الشعب والسلطة السياسية تماماً كما حدث في مصر وقبله في تونس حيث
وفرت المؤسسة العسكرية على شعبها حمامات الدم التي تشهدها دول عربية
اخرى في هذه اللحظة من ليبيا الى سورية مروراً باليمن، حيث لا توجد
مؤسسة عسكرية مستقلة عن المساحة السياسية لتقف موقفاً لا يجرها الى
اطلاق النار على شعبها، وهذا ما لا يتوفر في الدول التي تكون قواتها
المسلحة بكافة اطيافها تعتمد على علاقات مشخصنة مع الحاكم الذي يديرها
من مبدأ المحافظة على حماية شخصه بعد التمكن والاطمئنان لولاء اطيافها
والتي لا تكون في موقع سلطة من دونه ومن دون تفعيل علاقة زبونية معه
ومع افراد اسرته الكبيرة، فتنصهر المؤسسة السياسية بالمؤسسة العسكرية
وتذوب الفوارق من اجل تفعيل الولاءات الشخصية وتكون مثل هذه التركيبات
السياسية العسكرية قابلة للولاء المطلق وكذلك الانشقاق والتشرذم، حيث
تنشطر سرية او كتيبة عند لحظة حرجة وتنفصل عن الكتائب الاخرى إما كي
تبتعد عن حمامات دم تفرض عليها او طمعاً لتجاوز السياسي المهدد وعرض
نفسها كبديل عنه في حالة ضعفه امام تهديد شعبي ما.
لذلك حلف الرياض الجديد جاء في فترة حرجة لمنطقة الجزيرة العربية
حيث التهديد الامني الداخلي يفوق ما يسمى بالخطر الايراني. وبالمناسبة
لن تستفيد السعودية من عسكر الاردن او المغرب في حال حصول مواجهة مع
ايران اذ ستظل الولايات المتحدة السباقة في اي مواجهة رغم ان البعد
العربي سيكون مهماً على المستوى المعنوي فقط تماماً كما كان في حرب
الخليج عام 1991.
ان تم تفعيل حلف الرياض الجديد فستكون اهدافه:
اولاً: مأسسة التعاون العسكري والامني والاستخباراتي وعدم تركه
لظروف المرحلة فلا يظل يخضع لمنظومة 'حسب الطلب' بل يصبح علاقة مضمونة
بالحلف الدائم من اجل التصدي لمخاطر الأمن الداخلي الخليجي بشكل عام
والسعودي بشكل خاص.
ثانياً: تثبيت أمن الاردن والمغرب وهما دولتان تشهدان حراكاً شعبياً
متطوراً يطالب بملكية دستورية حقيقية تقلص صلاحيات الملك وتقوي
البرلمانات المنتخبة والتي تنبثق عنها الحكومات الحقيقية الممثلة
للشعب. فلا المجتمع الدولي ولا دول الخليج تريد ان ترى اي اضطرابات في
هاتين الدولتين خاصة وان الاردن كان وما زال دولة عازلة بين العرب
واسرائيل ومؤخراً قد يصبح الدولة العازلة بين سورية (بعد ان يقرر شعبها
مصيرها) والجزيرة العربية. فالسعودية التي كانت تروع شعبها بالهلال
الشيعي بعد احتلال العراق لن تتحمل وجود هلال سني يطوقها من سورية الى
الاردن ان كان هذا الهلال ديمقراطية حقيقية تعكس ارادة شعوب المنطقة
وليس اهواء الحكام فيها.
اما المغرب فمعروف دوره في شمال افريقيا واهمية هذا الدور للدول
الاوروبية والرحلات الامريكية العسكرية الى المنطقة العربية. فجر
الاردن والمغرب الى المنظومة الخليجية وان جاء على عجل الا انه مشروع
مدروس للتصدي لاخطار الربيع العربي والذي ان جاء مع موسم شم النسيم
المصري والياسمين التونسي الا انه يعلن عن نفسه في جزيرة العرب عادة
برياح خماسين حارقة، ونتمنى ألا تكون نهاية حلف الرياض في قصر رحاب
جديد.
* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
صحيفة القدس العربي |