انحدار وسقوط الاحزاب العربية

مهند السماوي

من سمات العصر الحديث هو ان اغلب الثورات تقوم بها جماعات منظمة سياسيا ومن النادر ان نرى ثورة شعبية بلا احزاب معارضة كما حصل في بداية الثورة الفرنسية وغيرها... فالحزب المعارض هو حكومة ظل تقوم بواجب المعارضة وقيادة الثورة نحو حكم جديد اذا عجزت عن الانتقال السلمي للسلطة، لأنها الاقدر على مجابهة الاوضاع السياسية ومستجداتها نحو بناء نظام سياسي جديد.

العالم العربي لم يكن شاذا عن تلك القاعدة... فمنذ نهاية الحرب العالمية الاولى، والاحزاب السياسية المعارضة تقود الشارع نحو الاستقلال والحرية بعد ان كانت المعارضة متمثلة بالهيئات الدينية ورجال القبائل والمتنفذين، واصبحت من خلالها راسخة الجذور في المجتمعات العربية الى درجة اصبح بعضها جزءا من التراث الوطني وتاريخه السياسي بل تجاوز ذلك الى الذات وتضحياتها!.

وبعد الحرب الثانية والاضطرابات التي تلتها وصولا الى مرحلة التصفيات الدموية واستقرار انظمة الحكم الاستبدادية منذ بداية السبعينات، والاحزاب الموجودة على الساحة تراوح مكانها... فهي اما في الحكم واصبحت جهازا امنيا اضافيا وفارغا من اي محتوى فكري واخلاقي يستحق الاحترام والتقدير! بل تحولت الاحزاب الحاكمة الى مافيا اجرامية تمارس الارهاب والرعب والفساد من خلال استغلال المواقع الرئيسية في الدولة، واصبحت تلك الاحزاب مثالا سيئا للبقية التواقة للحكم من خلال انهيار منظومة الفكر السياسي الخلاق والمبدع وانحراف وتشويه الوطنية المخلصة، والنماذج كثيرة في الاحزاب الحاكمة في العراق وسوريا ومصر وتونس والجزائر واليمن والسودان ولبنان وغيرها.

انهيار احزاب المعارضة:

الانهيار الثاني والاخطر فعليا هو سقوط احزاب المعارضة الفعلي من خلال عجزها عن مواكبة حركة الثورات العربية الشعبية او تصدر الصفوف الامامية لحماية الثائرين والتي اندلعت في عام 2011 والمفروض منها كذلك ان تكون هي القائدة والمدبرة لعملية الثورة وادارتها... الذي حدث هو ان مجموعات الشباب المتعددة في شبكة الانترنت، استغلت حالة الفراغ والركود السياسي فأصبحت هي المدبرة والقائدة للثورات بالرغم من ضعف خبرتها الميدانية وعدم امتلاكها لرؤية سياسية واضحة مثلما هو موجود لدى احزاب المعارضة، ولكن اكيد ان النضج السياسي سوف ينتشر بمرور الزمن...

 ولنا في تونس ومصر امثلة كيف تفاجئت الاحزاب بحركة الشارع ومجموعات الثورة الالكترونية وهي لم يكن لها وجود يذكر في ليبيا بسبب الابادة السابقة وانتشار القبلية، اما في البحرين واليمن وسوريا فأنها لم تستطع مواكبة التحركات الشعبية وان تلبي طموحاتها المشروعة ولا استطاعت ان تفتح جبهات اخرى لمساندتها بل اصبحت جزءا بسيطا منها، اما الدول التي بقيت خارج نطاق التحرك الثوري مثل الجزائر والمغرب والسودان ولبنان والاردن فأنها علامة على الانحدار والاضمحلال والركود، بينما بقيت دول الخليج الاخرى في حالة من الترقب والانتظار لان الاحزاب غير موجودة كما ان سطوة السلطة والفعاليات المختلفة بقيت حاضرة ويقظة لحد الان وهذا لا ينطبق على المستقبل لأنه مجهول للجميع!.

لماذا الانهيار الثاني اخطر من الاول؟!

لان المنظومة السياسية الحاكمة بقوة الحديد والنار وبالخداع المتواصل والارهاب الوحشي والتي لا تملك من اصول الثقافة شيئا جعلها بالفعل منهارة وخائفة من ادنى حركة الى درجة استعدادها ان تبيع وطنها للبقاء في السلطة فهي اذا لا تحتاج سوى الى ضربة حذاء ترميها الى الابد في مزابل التاريخ!... اما احزاب المعارضة فهي تبني سمعتها طويلا على نغم ايقاع خطواتها في معارضة الاستبداد والخيانة المستمرة والوقوف الى جانب الشعب في معركته المصيرية في سبيل الحرية والعدالة، وسمعة المعارض لا تبنى او تعطى بسهولة وهي كنز حقيقي لا يعرف معناه الا من حازه بجدارة بينما سمعة رجال السلطة تبقى في اسوأ مكانة واكثرها احتقارا مهما تجمل بطرق الخداع والتمويه!... هكذا تاريخ يجب ان يراعى ويحترم لأنه جزء رئيسي من تراث الامة وقيمها المعنوية المتعددة، والمحافظة على سمة وسمعة المعارض مهمة بالفعل صعبة وتحتاج الى جهد ذاتي وتحديثات مستمرة لمواكبة تطورات العصر مع الابقاء على الاصول الثابتة التي لا تتغير مع الاحداث.

الضربات الاستباقية والحرب المعلنة من جانب الانظمة العربية ضد احزاب المعارضة جعلها منهوكة القوى ومخترقة حتى اصبحت هي الاخرى هياكل عظيمة تستحق الشفقة لانها فقدت جزءا رئيسيا من مقدرتها الفكرية والسياسية القادرة على توجيه طاقات المجتمع نحو حركية سياسية جديدة تسمو بالحياة الديمقراطية الفعلية... بل الادهى من ذلك ان بعضها سقط في مستنقع الوراثة السياسية كما سقطت اضدادها الحاكمة فيه! فكيف يمكن لأحزاب فقدت القدرة والنشاط وترهلت واختزلت بأشخاص، ان تستغل الثورة التكنولوجية وتسخرها لخدمة الشعوب التي انهكها الاستبداد والطغيان والفساد؟!...

من غباء وخيانة الانظمة الاستبدادية العربية انها ابادت احزاب المعارضة ولم تحتويها وتروضها ضمن لعبة سياسية محكمة، بل وجعلت الباقي منها فارغا من اي مضمون وعليه فأن التوجه الجماهيري وبخاصة قواه الشابة نحو طرق جديدة للتعبير والمعارضة ان تكون بعيدة عن سيطرة الحكومات والاحزاب المعارضة التي ترهلت وسقطت في اختبار الوراثة السياسية والانقسامات الداخلية وعجزت بالتالي عن استيعاب اسس الديمقراطية والحقوق الفردية وقيمها العالية...

من هنا نشأت وسوف تنشأ احزاب جديدة من المجموعات الشبابية تمنح للعمل السياسي روحا جديدة خالية من اخطاء المراحل السابقة وسوف تكون القواعد الجديدة المتفق عليها وهي مدار الفكر والعمل المؤدي له... ولكن تبقى الاحتمالات متضاربة فيما لو تحرك الاثنان نحو الشارع للاستحواذ على تأييده، فأحزاب المعارضة القديمة لها مؤيديها وقواعدها بينما الشارع متوجه نحو المنتصرين الشجعان الذين تحدوا ارادة الارهاب والقمع.

ولكن يبقى السؤال الخالد: هل يبقى ذلك التجديد مستمرا؟!

الجواب هو كلا لان الحياة لا تسير وفق منهج وسلوك ثابت، فهي دائمة التغيير وعليه فأن الافكار الجديدة والاحزاب المنبثقة منها هي ايضا لمرحلة معينة، قد يطول بقائها اذا كانت الظروف مواتية واستطاعت استيعاب كل جديد، ولكن موتها البطيء واندثارها سوف يكون سريعا في حالة الجمود والتقوقع الفكري والعملي الذي يؤدي الى الانحدار.

الاحزاب والمنظمات هو شر لا بد منه اذا احسنا استخدامه!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 9/آيار/2011 - 5/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م