الانتفاضات العربية ومرحلة ما بعد الذوبان... إعادة تشكيل وجه المنطقة

تقرير: محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون بمخاض التحول الديمقراطي الذي يضرب المنطقة بمرحلة بدأ ذوبان الثلج، في تعليقها على سخونة الأحداث المتسارعة التي تأخرت كثيرا في نظر البعض.

الا ان ذلك يدل على الكثير من المؤشرات بالغة الأهمية على صعيد إعادة تشكيل وجه المنطقة العربية بعد سنوات طويلة من الجمود السياسي، الذي عاصر حقبة طويلة من عهد الاستبداد السلطوي للحكام العرب.

ويرى اغلب المحللين لقضايا الشرق الأوسط ان التحولات الجارية أفضت الى خيارات جماهيرية غير متوقعة، أسدلت في الوقت ذاته الستار على حالة الارتياب والقلق الذي كان سائدا قبيل اندلاع الانتفاضات الأخيرة، خصوصا على بعض قضايا التطرف والغلو الديني احد ابرز هواجس المجتمع الدولي.

مخاطر تتهدّد الحركات الديمقراطية

فقد قال خبراء في شؤون الشرق الأوسط إن الثورتين العربيتين في تونس ومصر مهددتان من قبل قوى متمكنة داخلية وخارجية، ومجموعات متطرفة، في الوقت الذي يطالب فيه الناشطون في مجال الحريات والديمقراطية، الحكومات الجديدة بمزيد من الشفافية وإعطاء الحقوق للأقليات.

وقد هيمن موضوع الثورات العربية على النقاشات التي دارت في منتدى أميركا والعالم الإسلامي السنوي في واشنطن، قبل أيام، وعبر بعض المشاركين عن قلقهم إزاء الوضع في ليبيا، وخشيتهم من أن يتحول النزاع الحالي إلى حرب أهلية طويلة المدى، كما قال آخرون إن الأزمة في البحرين يمكنها أن تشعل فتنة في المنطقة، في حين بدا خبراء ومتخصصون في الشأن العربي متحفظين في ما يخص مستقبل الثورتين التونسية والمصرية.

من جهتها، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، إن الخطر يكمن في عدم رضا الجماهير (التي ساندت الثورتين)، موضحة أن «تجارب سابقة أثبتت أن الناس يصابون بخيبة الأمل عندما يحسون بالتهميش، وربما يستغل المتطرفون الفرصة للدخول على الخط».

وأشارت إلى أنه يتعين على أميركا أن تتعامل مع الوضع في الشرق الأوسط من خلال سياسة خارجية أخلاقية متوازنة، واستدركت بالقول: «ولكن بالطبع لا توجد سياسة متوازنة في كل الأوقات».

في المقابل، نفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، أن يكون بإمكان واشنطن التعامل مع كل المسائل في المنطقة العربية من خلال طرح واحد. أما العضو في المبادرة المصرية للحقوق الفردية حسام بهجت، فقال إن الولايات المتحدة تستخدم معايير حقوقية مختلفة عندما تتعامل مع الدول العربية وإسرائيل.

وأضاف «لن تتمكن الولايات المتحدة من لعب دور المؤيد للإصلاحات في الشرق الأوسط، إلا إذا استخدمت القيم نفسها مع جميع الأطراف بتوازن ومنهجية». وأكد أنه على الرغم من خلع الرئيس المصري السابق حسني مبارك، إلا أن السلطات في بلاده لاتزال تحكم من خلال سلطة مكتسبة من النظام البائد، ولا تتحلى بالشفافية، بما يكفي.

وطالب الناشط الحقوقي، بالتحقيق في استخدام أجهزة الأمن للقوة بداية الثورة في يناير الماضي، وتقديم المتسببين في قتل عشرات المدنيين وترويعهم إلى القضاء. وتساءل بهجت عن الجهات التي أعطت الأوامر للقناصين بقتل المتظاهرين في ميدان التحرير، إذ شهد تصفية بعض الشباب خلال وجوده هناك. أما الناشط السياسي سعد الدين ابراهيم، الذي اعتقل في سنة،2000 فأشار إلى تهميش فئات من الشعب وعدم تمثيلها بما يناسبها في المجالس المحلية والوطنية، وقال إن المسيحيين الأقباط والنساء وشريحة الأطفال، ليس لهم هيئات تمثلهم وتدافع عن حقوقهم. وأضاف «وبالتالي فإن بناء ديمقراطية عربية في القرن الـ21 يتطلب العمل الجدي على إعطاء هذه الفئات المهمشة في السابق مزيد من الحقوق». ورأى إبراهيم أن مبدأ «رجل واحد، صوت واحد» لن يؤتي ثماره في العالم العربي، واقترح تخصيص 40٪ من المقاعد البرلمانية في العالم لمن هم دون الأربعين لإحداث نوع من التوازن التمثيلي الذي تفتقده البرلمانات العربية.

واعتبرت الباحثة في الشؤون المصرية بمركز الشرق الحديث في ألمانيا، صونيا حجازي، أن التحولات الجارية حاليا في المنطقة «فرصة للجميع وليست تهديداً»، وقالت إن المحاولات الأوروبية للشراكة مع دول جنوب المتوسط لم تنجح، لأن أهداف المشاركة المتنامية والتوزيع الاقتصادي العادل على المواطنين، وتنظيم الهجرة الشرعية، والتزام حقوق الإنسان لم تجد شريكاً فعلياً لها في أنظمة هذه الدول، أما الآن فان الإمكانية ستتوافر بعد انتخاب حكومات شرعية.

الثورات تجاوزت البعد الإسلامي

من جانبها نشرت مجلة "فورين آفيرز" مقالا لأستاذ الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط بجامعة إلينوي "آصف بايات" حاول فيه تفنيد اختزال البعض للثورات العربية بأنها تنطلق من بعد إسلامي مشيرا إلى أنها تخطت ذلك، بل ربما تمهد الطريق لنظم ديمقراطية تحترم الدين وحقوق المواطنين.

وأشار المقال إلى أن الثورات سواء اختلفنا أو اتفقنا عليها هي ثورات شبابية، نافيا دعاوى كثير من الجمهوريين في الولايات المتحدة بأن هذه الثورات ستتحول إلى ثيوقراطية أشبه بالوضع في إيران وأنها قد استلهمت روحها من ثورة 1979 الإسلامية في إيران.

وقد تناولت الصحيفة مشاركة الجماعات الإسلامية في الثورة مثل النهضة في تونس والإخوان المسلمون في مصر وكذلك في سوريا لكن الحقيقة كما يقول الكاتب إن الثورات قد تخطت الطابع الإسلامي لا سيما بعد تنامي الحركات الديمقراطية والإصلاحية في العالم العربي.

ويشير الكاتب إلى أن ما يصفه بـ "ما بعد الإسلاموية" لا يعني العلمانية أو معاداة الإسلام لكنه يعني الالتزام بحقوق الإنسان مع احترام الدين، أو مجتمع تقي في نظام ديمقراطي أشبه ما يكون بحركة الإصلاح في إيران في أواخر التسعينات، والحركة الخضراء بإيران الآن، وحزب العدالة والرخاء بإندونيسيا، والوسط في مصر، والعدالة والتنمية في المغرب، والعدالة والتنمية في تركيا حيث بدأت كلها أصولية ثم تحولت إلى أداة للديمقراطية.

وأشار الكاتب إلى أن الخطاب الديني غائب عن تلك الثورات خاصة بعد رفض راشد الغنوشي مؤسس الحركة الإسلامية بتونس أسلوب الخوميني بل تراجع عن الترشح لمنصب الرئيس في الانتخابات المستقبلية. وبالمثل فإن الثورة في مصر طالبت بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية، وكانت في أغلبها علمانية حسب رؤية الكاتب. ونفس الشيء يقال عن المجلس الوطني الليبي، وعن المحتجين في سوريا واليمن بعكس البحرين التي قامت الثورة فيها على أساس طائفي لكن أغلبية المعارضة مطالبها علمانية.

وأكدت المجلة أن الدول الاستبدادية هي التي زرعت بذور فنائها بسبب أخطائها الاقتصادية والسياسية مما أدى إلى انعدام الطبقة الوسطى وكثرة المشكلات التي تتعلق بالبطالة والحقوق المدنية، مما عظم من حجم المعارضة الإسلامية في العالم العربي في التسعينات مدعومة بالطبقات الفقيرة والمحرومة.

لكن الصوت الإسلامي خفت بسبب تنفير القاعدة للناس من ممارساتها وصعود أطياف أخرى من المعارضة مثل حركة كفاية في مصر في 2004 مما دفع الإخوان المسلمين إلى اتخاذ موقف براجماتي ينشدون فيه الديمقراطية. واختتمت المجلة بقولها إن ذلك من الممكن أن يتحول إلى مد أصولي إسلامي بسبب السلفيين في مصر واقترابهم من القواعد الشعبية، وهو ما ينبغي أن يلتفت إليه الساعون إلى الديمقراطية.

همشت دور بن لادن

في سياق متصل يبدو اسامة بن لادن الذي قتلته القوات الامريكية غير ذي اهمية في عالم عربي تجتاحه انتفاضات شعبية ضد زعماء شموليين. وقال نديم حوري من هيومان رايتس ووتش في بيروت "بن لادن ذكرى سيئة. تجاوزت المنطقة ذلك بكثير بانتفاضات ضخمة للقاعدة الشعبية غيرت قواعد اللعبة."

ولقيت الهجمات الدموية للقاعدة بصفة خاصة هجمات 11 سبتمبر ايلول 2001 صدى بين عرب اعتبروها انتقاما قاسيا مما يعتقدون انه مهانة تجرعوها على ايدي الولايات المتحدة واسرائيل وقادة بلادهم المدعومين من الولايات المتحدة.

وكان حلم بن لادن ان يلهم جهاده في ارجاء العالم المسلمين للاطاحة بالحكومات الموالية للغرب بصفة خاصة في السعودية التي جردته من جنسيتها. وجاء اعتناقه فكر الجهاد نتيجة الى حد كبير لغضبه مما اعتبره احتلال قوات اجنبية "كافرة" لاراض مسلمة كما في حالة الاحتلال الروسي لافغانستان والتواجد الامريكي في السعودية ابان ازمة الخليج في عام 1990 والاحتلال الاسرائيلي لفلسطين.

ولم تستقطب اعمال العنف العشوائية التي نفذتها القاعدة الجماهير العربية قط فيما تعرضت الخلايا التابعة لتنظيم القاعدة لضغط شديد من الحكومات العربية التي ساهمت في جهود غربية لمكافحة الارهاب.

وقال حوري "ربما اثار اسلوب بن لادن في التحدي مخيلة البعض في الايام الاولى ولكن اعمال العنف التي تفتقر لمنطق قضت على اي ميل تجاهه."

وبدا هذا التغير في المشاعر أكثر وضوحا في العراق حيث دفع الغضب -من سقوط ضحايا مسلمين جراء الهجمات الانتحارية للقاعدة وما يعقبها من رد انتقامي للشيعة- شيوخ القبائل السنية للتحالف مع الامريكيين.

وتبخر التعاطف الشعبي مع القاعدة في السعودية عقب سلسلة من الهجمات العشوائية في الفترة من 2003 الى 2006.

واذا كان الجذب الايديولجي لبن لادن ونائبه المصري ايمن الظواهري اللذين يدعوان لخلافة اسلامية قد بدأ يضعف بالفعل فان الانتفاضات الشعبية في العالم العربي قلصته بصورة أكبر.

وقال محجوب زويري من جامعة قطر "في مرحلة ما كان الرأي العام العربي يأمل ان ينهي بن لادن هذا الشكل من التفرقة .. اسلوب الغرب في التعامل مع المسلمين والدول العربية. ولكن هذه الامم تقول الان انها ستضطلع بالتغيير معتمدة على الذات وانها لا تحتاج احدا يتحدث نيابة عنها."

وذكر ان مقتل بن لادن سيؤثر فقط في قلة لا زالت تؤمن باسلوبه الرامي لايلام الغرب الى اقصى حد ممكن.

وقال زويري "لدى غالبية الدول المسلمة والعربية خيار خاص بها. تتحرك صوب مجتمعات مدنية حديثة. يؤمن الناس بالتغيير التدريجي. لا يريدون اللجوء للعنف حتى ضد الزعماء الذين قمعوهم."

واطاحت الاحتجاجات السلمية برئيسي مصر وتونس وتهدد رئيسي سوريا واليمن بينما تحول التمرد الشعبي على الزعيم الليبي معمر القذافي لحرب اهلية تشهد تدخلا عسكريا غربيا.

ويبدو ان هذه التطورات اصابت القاعدة بصدمة الزمتها الصمت حتى أن أكثر اجنحتها نشاطا تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ومقره اليمن لم يشن اي هجوم ضخم خلال أشهر من الاضطرابات الشعبية ضد الرئيس علي عبد الله صالح.

ووصف مارتين انديك مساعد وزير الخارجية الامريكي لشؤون الشرق الادني الاسبق مقتل بن لادن بانه "ضربة في جسد" القاعدة في وقت قوضت فيه الانتفاضات في العالم العربي ايديولجيته.

وقال انديك الذي يعمل في معهد بروكينجز حاليا "كانت مقولتهم ان العنف والارهاب هما السبيل لاستعادة الكرامة والحقوق العربية.

"ما تفعله الشعوب في الشوارع في ارجاء العالم العربي انها تستعيد حقوقها وكرامتها عن طريق احتجاجات سلمية غير عنيفة - على النقيض تماما مما تدعو اليه القاعدة واسامة بن لادن."

وتابع "لم يستطع الاطاحة باي حكومة عربية وتطيح (الشعوب) بهم واحدا تلو الاخر. اقول ان تضافر الامران يعرض القاعدة لازمة حقيقية."

ربما اضحى بن لادن شخصية هامشية في العالم العربي ولكن حالة عدم الرضا التي استغلها لازالت قائمة.

وقال المعلق رامي خوري في بيروت "الاسباب الكامنة التي تدفع الناس للتحول لهذا النوع من العنف والاجرام والتحركات الارهابية لازالت موجودة " ولمح "للغضب والمهانة التي اصابت شعوب تشعر ان الدول الغربية أوالزعماء العرب اواسرئيل تعاملها بازرداء."

ورغم ذلك توقع استمرار تراجع حظوظ القاعدة بصفة خاصة مع انسحاب القوات الامريكية من العراق وفي وقت لاحق من افغانستان لتزيل اسباب قوية للاستياء.

وقال خوري "الربيع العربي مؤشر بكل تأكيد الى ان الغالبية الساحقة من العرب تبرأت من بن لادن كما كنا ندرك من البداية. حاول هو والظواهري باستماتة اكتساب تاييد الشعوب العربية ولكن لم ينجحا قط. بحسب رويترز.

"من اتبعوه من شكلوا خلايا سرية صغيرة وذهبوا لافغانستان ولكن الاغلبية الساحقة من المواطنين رفضت الرسالة."

وقال خوري "ما يريده العرب ما يحاربون من اجله الان المزيد من حقوق الانسان والكرامة والحكم الديمقراطي."

اعادة تشكيل العالم العربي

على الصعيد ذاته نشرت صحيفة ذي غارديان" البريطانية مقالاً للكاتب البريطاني، الباكستاني الاصل، طارق علي الذي كان احدى الشخصيات اليسارية البارزة دولياً في ستينات القرن الماضي ويرأس تحرير مجلة "نيو ليفت ريفيو" يعلق فيه على الثورات العربية الحالية. ويقول الكاتب ان المرحلة الاولى من الربيع العربي انتهت، لكن "المرحلة الثانية – أي محاولة سحق او احتواء الحركات الشعبية الحقيقية- بدأت". وهنا نص المقال:

كانت الارضية السياسية المرقعة للعالم العربي – الملكيات الموالية، والدكتاتوريات الوطنية المهترئة ومحطات البترول الامبريالية المعروفة باسم دول الخليج – نتاجاً لتجربة الكولونيالية الانغلو-فرنسية. وتبع تلك التجربة بعد الحرب العالمية الثانية عملية انتقال امبريالي معقدة الى الولايات المتحدة. وكانت النتيجة مداً قومياً عربيا راديكالياً مناوئاً للاستعمار وتوسعاً صهيونياً ضمن اطار الحرب الباردة الاوسع نطاقاً.

وعندما انتهت الحرب الباردة تولت واشنطن زمام الامور في المنطقة، عن طريق حكام محليين في بادىء الامر ثم من خلال قواعد عسكرية واحتلال مباشر بعد ذلك. ولم تدخل الديموقراطية ضمن الاطار قط، وهو ما مكن الاسرائيليين من الادعاء بانهم وحدهم واحة الضوء في قلب العتمة العربية. فكيف تأثر هذا كله بالانتفاضة العربية التي بدأت قبل اربعة اشهر؟

في كانون الثاني (يناير) رددت الشوارع العربية اصداء هتاف الجماهير الموحدة بغض النظر عن طبقتها او عقيدتها: "الشعب يريد تغيير النظام!". والصور المتدفقة من تونس الى القاهرة، ومن صنعاء الى البحرين، هي صور شعوب عربية واقفة على اقدامها مرةً اخرى. وفي الرابع عشر من كانون الثاني (يناير)، بينما كانتت الحشود تتدفق الى وزارة الداخلية، فر الرئيس زين العابدين بن علي الى المملكة العربية السعودية. ويوم 11 شباط (فبراير) اطاحت الثورة الوطنية في مصر دكتاتورية حسني مبارك بينما اندلعت ثورتان جماهيريتان في ليبيا واليمن.

وفي العراق المحتل، احتج المتظاهرون ضد فساد نظام حكم (نوري) المالكي، وفي وقت اقرب، ضد وجود قوات وقواعد عسكرية اميركية. واهتز الاردن باضرابات عامة وتمرد قبلي. وفي البحرين تصاعدت الاحتجاجات الى دعوات لاطاحة النظام الملكي، وهو حدث اثار خوف النظام السعودي الفاسد سياسياً ومالياً ورعاته الغربيين الذين لا يمكنهم تصور شبه جزيرة عربية من دون سلاطين. وحتى بينما انا اكتب هذه السطور، نرى النظام الوحشي والفاسد في سوريا، والمحاصر من ابناء شعبه، وهو يصارع من اجل بقائه.

كانت العوامل المزدوجة للثورات اقتصادية – بسبب البطالة الجماعية، والاسعار المرتفعة وندرة السلع الاساسية – وسياسية: المحسوبية، والفساد، والقمع، والتعذيب. وكانت مصر والسعودية العمادين الحاسمي الاهمية للاستراتجية الاميركية في المنطقة، كما اكد نائب الرئيس الاميركي جو بايدن اخيراً عندما قال انه اكثر قلقاً بشأن مصر وليبيا. ويتعلق القلق هنا باسرائيل والخوف من احتمال ان تقدم حكومة ديموقراطية خارجة عن نطاق السيطرة على الغاء معاهدة السلام. وقد نجحت واشنطن حتى الآن في اعادة تمرير العملية السياسية نحو تغيير منظم بعناية، يقوده وزير دفاع مبارك ورئيس اركانه، علماً ان هذا الاخير وثيق الصلة بالاميركيين.

وما زال معظم النظام في مكانه. ورسائله الاساسية هي الحاجة الى الاستقرار والعودة الى العمل ووضع حد لموجة الاضرابات. وتستمر المفاوضات المحمومة من وراء الستار بين واشنطن والاخوان المسلمين. وما زال دستور معدل تعديلاً طفيفاً في مكانه، لكن النموذج الاميركي الجنوبي الذي تنتج فيه حركات اجتماعية ضخمة تنظيمات سياسية جديدة تنتصر في الانتخابات وتطبق اصلاحات اجتماعية ما زال بعيداً عن تطبيق نسخة عنه على العالم العربي، وبالتالي فانه لا يشكل أي تحد جدي، حتى الآن، للوضع الاقتصادي الراهن.

وفيما تظل الحركات الشعبية في كل من تونس ومصر تنام وعيونها مفتوحة، فانها لا تملك الوسائل السياسية التي تعكس الارادة الشعبية. فقد انتهت المرحلة الاولى. وبدأت الثانية، وهي عودة التحركات الى طبيعتها الاولية.

ان قصف الـ"ناتو" لليبيا كان محاولة من الغرب لاستعادة المبادرة "الديمقراطية" بعد الاطاحة بالدكتاتوريين التابعين له في اماكن اخرى. لكن ذلك احال الوضع الى الاسوأ. فما قيل انه عملية استباقية لتغيير مسار المذبحة ادى الى مقتل مئات من الجنود، الكثير منهم كانوا يشاركون في القتال مكرهين، كما انه سمح لمعمر القذافي الرهيب للظهور على انه مناوئ للامبريالية.

وفي هذا الصدد يمكن للمرء ان يقول انه مهما كانت النتيجة النهائية، فان الشعب الليبي كان الخاسر. فالبلاد اما انها ستنقسم ما بين دولة القذافي ومحمية بائسة موالية للغرب يقودها رجال اعمال مختارون، او ان يقضي الغرب على القذافي ويسيطر على ليبيا باكملها وعلى احتياطيها الضخم من النفط. غير أن المشاعر المؤيدة "للديمقراطية" لا تمتد الى اماكن اخرى من المنطقة.

ففي البحرين ادى التدخل السعودي، بضوء اخضر اميركي بهدف سحق الديمقراطيين المحليين، الى تعزيز الطائفية الدينية والى تنظيم محاكمات سرية واصدار احكام بالموت على المحتجين. فالبحرين اليوم سجن كبير، وهي خليط قاتل من غوانتنامو والسعودية.

اما في سوريا فان جهاز الامن الذي تقوده عائلة الاسد يقوم بالقتل كما يشاء، من دون ان يكون قادراً على سحق الحركة الديمقراطية. والمعارضة لا تخضع لسيطرة الاسلامييين: انها نتاج تآلف عريض يضم جميع شرائح المجتمع باستثناء الطبقة الرأسمالية التي ظلت موالية للنظام.

وعلى خلاف ما يجري في دول عربية اخرى، فان كثيرا من المثقفين السوريين اختاروا البقاء في الوطن، يعانون من السجن والتعذيب والطائفية الاجتماعية مثل رياض الترك، وهناك كثير آخرون انضموا الى القيادات السرية الخفية في دمشق. ويفضل الاسرائيليون والاميركيون بقاء الاسد في موقعه مثلما كانوا يفضلون ذات يوم بقاء مبارك، الا ان البوصلة لم تستقر على حال بعد.

وفي اليمن قتل المستبد مئات من المواطنين، الا ان الجيش انقسم على نفسه، ويحاول الاميركيون والسعوديون جاهدين ربط الاطراف في ائتلاف جديد (مثلما هو في مصر)، غير ان الحركات الشعبية تقاوم اي اتفاق مع الحاكم الحالي.

ولا بد للولايات المتحدة ان تقنع باجواء سياسية مغايرة في العالم العربي. ومن المبكر التكهن بالنتيجة النهائية، باستثناء القول انها لم تظهر بعد.

حكام العرب يدفعون الثمن

من دهة اخرى كان اليوم الذي أسقط فيه الشعب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في يناير الماضي لتبدأ بعد ذلك سلسلة من الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، كان للافتة التي رفعها أحد المتظاهرين في العاصمة الأردنية عمان فيما بعد مغزى معين.

فبينما سار المتظاهرون الغاضبون من ارتفاع أسعار المواد الغذائية في شوارع عمان، حمل أحد هؤلاء المحتجين لافتة تقول: «الأردن ليس للأغنياء فقط. الخبز خط أحمر، احترسوا من تجويعنا وإثارة غضبنا».

وكانت هذه اللافتة في الحقيقة إنذاراً مبكراً للدور الأساسي الذي يلعبه الاقتصاد في الاحتجاجات التي ستجتاح الشرق الأوسط وشمال افريقيا بعد ذلك.

فمن الواضح أن حكام الدول العربية يواجهون اليوم تحدي شعوبهم لهم ليس فقط لأنهم لم يستجيبوا لتطلعات الشعب الديموقراطية والإصلاح السياسي بل أيضاً لإهمالهم في توفير فرصة لشعوبهم للعيش حياة كريمة معقولة.

والحقيقة أن هذا الفشل، كان ولايزال القوة المحركة للاحتجاجات، ولايزال يشكل تهديداً كبيراً للاستقرار في العالم العربي على المدى الطويل.

غير أن تحول المسار الثوري للانتفاضات التي كانت في معظمها سلمية في تونس ومصر الى صراع عنيف في ليبيا والآن في سورية، يحجب العوامل الاقتصادية المرتبطة بالرغبات السياسية للمحتجين، إذ من المعروف أن المنطقة يسكنها جيل من الشباب يزداد يأساً لأسباب عدة مثل ارتفاع تكاليف المعيشة، أنظمة التعليم الضعيفة وعدم وجود فرص العمل التي تتيح عيشاً كريماً.

يقول جوشوا لانديس، خبير الشؤون السورية في جامعة أوكلاهوما: تبدو الشوارع السورية ممتلئة عادة بأعداد كبيرة من الشباب الغاضب العاطل عن العمل والمستعد للتغيير.

والواقع أن المعطيات الاقتصادية المتوفرة تفسر أسباب انطلاق موجة الاحتجاجات الأخيرة، إذ أن حوالي %60 من سكان المنطقة هم من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين، ويعانون من معدل بطالة يبلغ %25 هو الأعلى في العالم، وفقاً لبحث أمرت به مؤسسة المال الدولية التابعة للبنك الدولي.

وتبيّن من عملية استطلاع للآراء أجراها معهد غالوب شملت 20 بلداً، وتم نشرها الشهر الماضي، ان أعداد الناس الذين وصفوا أنفسهم بالمرتاحين مالياً قد تراجعت في مصر والبحرين على الرغم من أن هذين البلدين سجلا نمواً اقتصادياً في الآونة الأخيرة.

ويعلق على هذا محمد يونس، كبير المحللين في المعهد، بالقول إن هذه النتائج تبين أن الشباب لم يشعروا بمكاسب زيادة الإنتاج الداخلي لأن هذه الزيادة لم تؤد الى توفير فرص العمل.

ولذا، كان من الطبيعي أن تنطلق موجة احتجاج شبابية كبرى بعد سقوط مبارك نتيجة لامتعاض الناس من الأجور الضعيفة وظروف العمل غير الملائمة.

ومن الملاحظ في هذا الإطار أن حكومات الشرق الأوسط تجاهلت في معظمها البعد الاقتصادي للاحتجاجات ولجأت إما لاتخاذ إجراءات صارمة أؤ تقديم منح وأعطيات لا تعالج مشكلات الشعب الأكبر على المدى الطويل.

ولذا أدت «المنحة الملكية» في المملكة العربية السعودية في فبراير الماضي الى إثارة غضب الناشطين الذين كانوا يسعون من أجل إصلاحات أوسع.

على أي حال، سواء تمكن حكام الدول العربية من تجنب التحديات المباشرة كما في المملكة العربية السعودية أو استسلموا أمام الاحتجاجات كما في مصر أو ردوا عليها بقوة كما في ليبيا، من الواضح أنهم يفتقرون جميعاً لرؤية مالية صحيحة تمكنهم من نزع فتيل مثل هذه الأزمات. فهناك ملايين من الشباب ينتظرون حياة أفضل اقتصادياً وعلى الحكام الاستجابة لمطالبهم المشروعة بالطبع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 5/آيار/2011 - 2/جمادى الآخرة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م