اشكالات مسلك التصحيح المذهبي

لأحمد زقاقي

ياسر الحراق الحسني

في إطار تتبع بحوثات المفكر الإسلامي الطموح الدكتور أحمد زقاقي والتي تدور حول تدبير الخلاف السني الشيعي، يجدر التوقف عند فصل التصحيح المذهبي الذي اعتبره لبنة لتشييد البناء التقريبي بين المذهبين بعد تسليمه بوجود الأخطاء والإنحرافات التي طالت المسلمين.

وعلى الرغم من القلق الذي يتولد عن الإضطرابات المنهجية كما تم تبينها من خلال مقال "مغالطات المقاربة الوثائقية لأحمد زقاقي"، فإن هذا القلق لا يمنع من الوقوف عند أهم الأفكار في حد ذاتها واستقصاء الجوهر دون ربطه بمَحَّارته. وذلك حرصاً على معرفة مدى متانة الأفكار بطريقة لا يكون فيها لمعتقدٍ بسلامة القلب أنا لم ننصفه إنشغالاً بالقالب.

 والتحقيق في هذا المقال سيتعرض لأهم الأفكار التصحيحية على ضوء سلامة الجوهر كجوهر في حد ذاته، وفي حدود قابلية إستعماله للغرض التصحيحي، وكذلك في مقابليته، بمعنى إستقصاء أهمية الفكرة بالمقابلة لمعرفة قيمتها التصحيحية لدى كلتا فرقتي البحث. ومع تحفظي على نظريات التقريب المذهبي عامةً واختلافي مع رؤية السيد زقاقي خاصةً والتي سنقف عندها في مقال تفصيلي آخر، سوف يقتصر هذا المقال على مسلك التصحيح المذهبي المشار اليه.

اشكالات في تعريف التصحيح المذهبي

 إذا اردنا إستخلاص تعريف للتصحيح المذهبي الذي أراده الدكتور زقاقي من خلال مقدمة مقال " التصحيح قبل التقريب " (هسبرس، 16 نوفمبر 2010) فإننا نجده كتصحيح له خلفية وقاعدة وآلية ثم هدف. فالخلفية كما أشار إليها السيد زقاقي تتمثل في الخطأ والإنحراف الذي طال تراث المسلمين - نقلاً عنه- في الفقه والكلام والسياسة. والقاعدة هي فقه موارد الإختلاف كما في قوله : "مما لا شك فيه أن التجارب التي عاشها المسلمون، واجتهدوا في تنزيل أحكام الشرع والدين عليها لم تسلم من الخطأ والانحراف، وقد استوعبها تراثنا الفقهي والكلامي والسياسي، فهل نأخذ أقوال كل فريق في موارد الاختلاف المذكورة مأخذ المسلمات، أو الواجب هو عرضها على حقائق الكتاب والسنة الجامعة؟ والجواب هو أن فقه موارد الاختلاف لابد أن يتبع بعملية تصحيح..أو نقد ذاتي كما يعبر البعض- تعد كفيلة بقطع أشواط عظيمة على صعيد التقريب". وإقحام قاعدة فقه موارد الإختلاف بقوة في مسلك التصحيح المذهبي فيه إشارة واضحة إلى مبدأ استحالة إجتماع الأمة الإسلامية على باطل. أما الآلية والهدف من التصحيح المذهبي فعبر عنهما الدكتور في قوله: " ويروم هذا المقال توضيح مفهوم معين للتصحيح وهو: أن يتصدى عالم الرد على جملة من الآراء والأقوال التي يعتقدها أهل مذهبه، أو على أعمال يمارسونها لما يراه من مخالفتها للكتاب والسنة، أو إسرافها في التعمق والغلو، أو إضرارها بوحدة الأمة الإسلامية، أو الرد على مشاعر متطرفة في الحب والبغض (العواطف)، وفي كل ذلك يكون هاجس التقريب والتفاهم واردا لديه." فخلفية التصحيح إنحراف وخطأ الأمة قاطبةً، وقاعدة التصحيح هي فقه موارد الإختلاف والآلية هي تصدي علماء كل مذهب لتصحيح مذهبهم بنفسهم والهدف هو التقريب بين المذاهب.

هناك بعض الأسئلة تتعلق بالتعريف المذكور. أولاً : عدم قيام الباحث بتوضيح معالم الإنحرافات المقصودة ورسم خريطة بحثية لتناول كل معلم على حدة وعند كلتا الفرقتين. مثلاً، تحديد التدخل السلطوي في عصر التدوين الإسلامي واثره على النتاج الحديثي. وكما ترى في هذا المثال المفترض فإن القارء يجد أمامه مشكلة واضحة كما يجد فرصة الإطلاع على معالجتها عند فرقتي البحث أي الشيعة والسنة. وغياب مثل هذا التوضيح هو بمثابة الإبحار دون بوصلة حيث سنرى كيف سيتم إدراج إنحرافات لا أصل ولا وجود لها تجعل من العمل التصحيحي أحياناً عملاً لإثارة شبهات ليس إلا. وبما أن خلفية التصحيح هي الخطأ والإنحراف اللذان فشل الباحث في تحديدهما بوضوح يمكن إستنتاج بطلان خلفية البحث على أساس الطريقة التي تم تناولها بها.

 ثانياً: عدم الإمعان في تفصيل المراد مما يقصده بكلمة" عالم" ، في حديثه عن كون التصحيح يقوم به كل عالم من مذهب معين عن طريق التصدي للشاذ والمنحرف مما يعتقد به أهل مذهبه. فهل الكاتب هنا يتحدث عن عالم دين حاصل على تكوين وإعتراف يرقى به إلى صفة تمثيل المذهب أم المقصود بالعالم المفكرين والأدباء كذلك؟ وغياب التعريف بما هو المقصود بالعالم صب على بحوثات السيد زقاقي التصحيحية مسائل لوصبت على الأوامر صرن نَواهيَ. فلما يتحدث عن نماذج العلماء المصححين عند الشيعة يذكر لنا مثلاً المفكر الإيراني علي شريعتي والإعلامي البعثي العراقي حسن علوي والسيد محمد حسين فضل الله إضافةً إلى ردود كلاسيكية شيعية ضد الغلاة. وفي جانب العلماء المصححين السنة يذكر محمد بن المختار الشنقيطي وعبد السلام ياسين والغزالي وماجد عرسان كيلاني. إذا دققنا النظر في شخصيات التصحيح المذهبي هذه نجد كيف أن الكاتب ضيع مفهوم العالم فاتحاً باب العالم المصحح ليلجه الإعلامي والمهندس والمفكر والمتصوف والمثير للجدل، كما هو الحال بالنسبة لبعض المذكورين، وهذا ما لا يعقل.

ولتبسيط الفكرة، ما فعله الدكتور زقاقي في إختياره لنماذج المصححين الشيعة لو سمح لنا أن نفعل مثله -ولن نفعل إلا من باب التبسيط بالمماثلة- لخرجنا عليه بفرقة تصحيح للمذهب السني تتكون من عمرو خالد وعبد الله العروي وطه حسين ومفتي سورية الشيخ حسون! فتكون دليلاً على جهلنا العميق ورأينا السحيق. ثم إن الدكتور زقاقي إنتخب مجموعة من النماذج السنية من حاملي الثقافة الصوفية ممن لا يمكن اعتبارهم علماء المذهب السني الممثلين له.

وعليه فإن آلية التصحيح التي تنبني على دور العالم المنتسب للمذهب الذي هو موضوع التصحيح تكون باطلةً.

ثالثاً: تناوله للتصحيح المذهبي فيه نوع من التقيد بمسألة التقريب. وبناءً عليه، الباحث لم يوضح جواباً لمثل هذا السؤال: " ماذا لو إنتهى بنا مسار تصحيحي في مذهب ما بنتيجة تبعده عن المذهب الآخر؟ ". فهل وقتئذٍ نترك التصحيح أم نترك التقريب؟

لماذا مناقشة بعض الأفكار التصحيحية إستقلالا؟

فيما يلي سوف تتم مناقشة بعض الأفكار التصحيحية إستقلالاً بمعنى عدم ربطها بالمجهود التأسيسي الذي قام به السيد زقاقي سواء كان الأمر يتعلق بالنهج الوثائقي الذي سبق الكلام عنه في مقال "مغالطات المقاربة الوثائقية لأحمد زقاقي" أو كان يتعلق بالتعريف الذي أشكلنا عليه في ما سلف ذكره هنا عن طريق إبطال التبويب المشتمل على خلفية التصحيح المذهبي وآليته ثم هدفه. والمعالجة الإستقلالية للأفكار التصحيح المذهبي هاهنا هي بمثابة التحقيق في جوهرها بما هو جوهر وقابليتها في خدمة الغرض التصحيحي ثم مقابليتها كما تم توضيحه في الفقرة الأولى.

 1. فكرة التصحيح من خلال الحسم في جدل سلامة القرآن من التحريف

لقد ذكر السيد زقاقي في مقال "التصحيح في سياق النقل " (هسبرس 22 نوفمبر 2010) أن الحسم في جدل سلامة القرآن من التحريف هو أولى خطوات التصحيح المذهبي. وجوهر الفكرة الموهوم يفيد بضرورة التحرك للحسم في موضوع يشكل مظهراً من مظاهر الإنحراف أو الخطأ مما يستوجب التصحيح. إن القول بمثل هذا الإفتراض يستلزم إتيان صاحبه بنماذج تفيد في المطلب، أي الإتيان بمثال واحد نرى من خلاله عالم شيعي أوسني معاصر يعلن أن القرآن محرف. وفشل إتخاذ هذا المسلك الإثباتي جعل السيد زقاقي يتحدث في الإفتراض، أي أنه يفترض وجود الشيء فيناقشه مما يجعل البحث غير مأخوذ بناصيته يصرف صاحبه إلى حيث لا يشاء. فالفكرة لا قابلية لها في خدمة الغرض التصحيحي لعدم ثبوت ورودها كمشكل عند المذهبين لأن كلاهما قرآنهما واحد. أما الحديث عن مقابلية هذه الفكرة فيجر معه سؤالاً عن الغرض من الحديث عنها في خانة التشيع فقط. فالمقال المذكور يتحدث عن شبهة القول بالتحريف عند الشيعة الأوائل كما تم الإيهام به مع إهمال الأقوال بمثلها عند السنة. وهنا نأخذ ما قدمه كمثال في قول الشيخ المفيد: "إن الأقوال قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان". ففي هذا المثال نلمس إشتباه السيد زقاقي الناتج عن وقوفه على نص وإقتطاف مصدره من الهامش دون التحقق منه في كتابه الأصلي في عملية ممارسة البحث. إذ لو كان وقف عند مصدر هذه المقولة الذي هو كتاب "أوائل المقالات " وقرأه كما هو مفروض لكان وجد في الصفحة 46 قول الشيخ بتحريف موجب التنزيل وسنة النبي. وهذا قول بتحريف التفسير والتأويل لا النص. فلا يعقل أن يكون السيد زقاقي قد قرأ الكتاب من الدفة اليسرى إلى الدفة اليمني لكي يقرأ الصفحة 80 التي أورد منها الكلام قبل الصفحة 46! ثم في إطار الحديث عن مقابلية الفكرة فإنك تجده قد أعرض لغاية لا نعرفها عن المشابه عند المذهب المقابل من مماثل الأقوال التي تجد من بينها ما روي عن عائشة "أنّ سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمان النبي ص في مائتي أية، فلم نقدر منها إلاّ على ماهو الآن" (تفسير القرطبي 14 : 113)، وما روي عن أبي موسى الأشعري أنّه قال لقرّاء البصرة : "كنّا نقرأ سورة نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها : لوكان لابن آدم واديان من مال، لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب" (صحيح مسلم 2 : 726 / 1050) وغير ذلك مما لا يسع المجال لذكره...

ثم لنفترض جدلاً أن المفيد قال بالتحريف في حين لا يخفى على الجميع أن الشيعة لا يقولون به، أليست إثارة هذه المسألة أخذاً للكثرة بجرائر القلة التي وعدنا الدكتور زقاقي أنه لن يسقط فيها؟ ففكرة الخوض في نقاش إثبات سلامة القرآن من التحريف فاقدة للجوهر لأنها محاولة تحصيل ما هو حاصل واقعاً.

2. فكرة التصحيح من خلال علاج التيارات المذهبية الممانعة للتقريب

من الأفكار التي اعتد بها السيد زقاقي في مسلك التصحيح المذهبي نقده الثنائي للتيار السلفي السني (راجع : العقل 'السلفي' السني في ميزان التصحيح، هسبرس 13 يناير 2011) والتيار الإخباري الشيعي (العقل الإخباري ' الشيعي في ميزان التصحيح 28 يناير 2011). هناك غموض فيما يخص هذا المنحى لأن الباحث لم يشرح ما إذا كان التياران المذكوران يشكلان إنحرافاً أو خطأً في حد ذاتيهما أم هناك إنحراف محدث طالهما. فهل العقل السلفي مثلاً إنحراف في المجال السني أم هو مدرسة سنية فيها إنحراف؟. إذا رجعنا إلى مقال العقل السلفي بما تضمن من كوارث هذا العقل على المسلمين التي ذكرها الباحث في صدر المقال من تكفير وإنحراف عقدي وإجرام- كما يستشف من ذكر مذبحة الوهابية في كربلاء - تستنتج إنحراف هذا التيار برمته عن المجال السني مما يبرر لإستئصاله. ولكن في نهاية المقال يتحدث الباحث عن مراجعات بعض رموز هذا التيار لبعض الأفكار مما يبقيه كياناً داخل المجال السني. هذه واحدة، أما الثانية فتتجلى في حديثه عن التيار الإخباري الشيعي الذي يسد أبواب الإجتهاد على كونه إنحرافاً في حد ذاته دون معاملته معاملة التيار السلفي عن طريق إستعراض آفاق التصحيح فيه. ولعل حديثه عن التيار الإخباري من باب المواجهة مع التيار الأصولي حصراً راجع إلى عدم تمكن الباحث من إيجاد مواد علمية لوضع الإخبارية في ميزان التصحيح - كما يتوهم القارء من خلال العنوان-. والسبب في ذلك مشكل إنقراض هذا التيار إذ لا تجد اليوم بين علماء الشيعة حاملاً للراية الإخبارية يشار إليه.

 الخلاصة من ذكر هذا هي الإشارة إلى أن هذه الفكرة التصحيحية جوهرها فاسد لا قابلية لها لكي تطرح على طاولة التصحيح المذهبي كما لا يمكن مقابلة تيار سني لا يستهان به وهو بمثابة الدين الرسمي لأغنى دولة عربية بتيار شبه منقرض عند الشيعة في الحديث عن التصحيح المذهبي. فإذا أزلنا الإخبارية من معادلة التصحيح بحكم الإنقراض الشبه الكامل يكون الدكتور الزقاقي حكم بإستقرار ضرورة العمل التصحيحي في المجال السني دون الشيعي مما يجعل فكرته التصحيحية في هذه الفقرة خروجاً عن موضوع البحث العام الذي يدور حول الخلاف الشيعي السني.

3. فكرة التصحيح من خلال الرهان على ثورة المسلمين ضد الملك العاض

في مقال "فقهنا السياسي وثورات الشعوب " (هسبرس 14 يناير 2011) وفي سياق حديثه عن الإنحراف الذي طال الفقه السياسي الإسلامي عرض الدكتور زقاقي فكرة لتصحيحه جوهرها الإستفادة من دروس الإنقلاب على "الخلافة الراشدة" والتأسيس لمرحلة الخلافة على منهاج النبوة. وقد فصل كثيراً في مظاهر الظلم والإستبداد الأموي والعباسي التي جعلت الأمة الإسلامية رهينة لطاعة عمياء للحاكم الذي جعل منه الفقه السياسي الإسلامي إماماً واجب الطاعة و إن كان ظالماً فاسقاً. وقد كشف هذا مشكوراً بكل شجاعةٍ عندما ذكر جرائم الأمويين والعباسيين وأتى بأمثلة تقشعر منها الأبدان كذكره ممارسات قتل الإنسان المسلم لمجرد كونه يحمل إسم "علي".

وهذه الفكرة لو كانت غير مقيدة بما يصطلح عليه ب " الخلافة الراشدة" وكانت ذات بعد قرآني محض من قبيل اقامة العدل والمساواة كنا سلمنا بسريان صلاحيتها ليس على المذهبين فقط بل على كل الملل والنحل إطلاقاً. ولكن عندما يتم ربطها ب"الخلافة الراشدة" كمنطلق والخلافة على منهاج النبوة -بالمعنى الراشدي- كغاية فإنها بهذا تفقد الجوهر. فالإصرار على كون الإنحراف انما ظهر كنتيجة للإنقلاب على الخلافة الراشدة شيء تكذبه التواريخ والسير لدى السنة والشيعة، إذا لو كانت حقبة الخلافة التي يشير إليها الباحث راشدة لما كان هناك مبرر لثورة المسلمين على الخليفة الثالث مثلاً. ثم لو كانت الحقبة المشار إليها راشدة لكانت عائشة - التي لا خلاف بين أهل السنة في مسألة أعلميتها- أدرى براشديتها ولما خرجت على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب كما في حرب الجمل المعروفة ، ولما حرضت أيضاً على قتل عثمان بن عفان بفتواها المشهورة : "اقتلوا نعثلاً فقد كفر" (راجع : النهاية لابن الاثير الجزري الشافعي 5/80 وكذلك تاج العروس للزبيدي 8/141 ولسان العرب وغيره). والمتأمل في هذين المثالين يرى حقيقةً لا يمكن انكارها وهي أن كثير من الصحابة وعائشة لم يكونوا على علم براشدية الخلافة المذكورة وهذا أمر ثابت. وتسليم الدكتور زقاقي بحقبة اسمها "الخلافة الراشدة" لا ينبني على أساس علمي وانما هو نقل عن تابعيي التابعين كمالك بن أنس وحيث لا يكون التابعون أدرى بحقبة الصحابة من الصحابة فلا حظ في الإستقامة للقول بأعلمية تابعي التابعين من الصحابة، وعليه ومع ثبوت صدور تصرفات لا تفيد بعلم الصحابة نفسهم براشدية الحقبة المذكورة واقتتالهم فيما بينهم خير شاهد، يكون الربط بين إصلاح الفقه السياسي و"الخلافة الراشدة" باطلاً.

 هذا في وقت يرى الطرف المقابل أن الإنقلاب وقع تحت سقيفة بني ساعدة بعد إستشهاد الرسول ص. بقي شيء واحد نشير إليه على عجالة وهو إدراج الدكتور زقاقي مالك بن أنس ضمن مصاديق ثورة العلماء التي استجابت لحركة الأمة في نضالها ضد الملك العاض الذي قال عنه أنه كان يعتمد على علماء البلاط لدعم سلطته. والتاريخ يشهد بتحالف المنصور العباسي مع مالك ونشره لمذهبه. فكيف يقول الباحث أن العباسيين يمثلون حقبة الملك العاض ، وفي نفس الوقت يمتدح مالك بن أنس الذي تحالف مع رموز هذا الملك العاض؟. ويكفيني في مالك ما أخرجه الحافظ بن الصديق الغماري من كون مالك ندم ندماً شديداً على إدخال حديث الحوض الذي يذكر فضائل أهل البيت طلباً لرضى الخليفة العباسي حيث قال :" وخرج مالك والبخاري ومسلم حديث الحوض ، الذي حكي عن مالك أنه قال: ما ندمت على حديث أدخلته في الموطأ إلا هذا الحديث " (فتح الملك العلي ص151).

 أفكار خارجية ادرجت في سياق التصحيح المذهبي

لقد كان للثورتين الشعبيتين التونسية والمصرية أثر على بحث التصحيح المذهبي للسيد زقاقي. ففي مقال "العلماء وثوراثنا الشعبية: بين الاصطفاف الاختياري والاصطفاف الإجباري" (هسبرس 9 مارس 2011) أقحم السيد زقاقي بطريقة عاطفية بعيدة عن المنهج العلمي ثورتي تونس ومصر في بحث كان مخصصاً لنقاش المسلك التصحيحي في المذهبين السني والشيعي. فهذا الإقحام لا نرى له مسوغاً معقولاً يفيد في المطلب نظراً لكون الثورتين كان للاسلامويين السنة الحظ الإيسر فيهما من ناحية المشاركة التنظيرية والميدانية. ففي وقت كان المواطن البسيط المسلم -وليس الإسلاموي- واللاديني يتحرك في الشارع كان العقل السلفي يعمل على إنتاج الفتاوي السلطانية التي تحرم المظاهرات. وحتى التيارات الإسلامية كالعدل والاحسان في المغرب مثلاً لم نر في خروجها مطالبةً بالخلافة على منهاج النبوة، ولا رأينا في كلام بعض السلفيين المنظمين مؤخراً ما يشير إلى المطالبة بدولة الخلافة. فأي علاقة بين حركات الإحتجاج الشعبي لأجل التغيير والكرامة بالتصحيح المذهبي؟ وكذلك الحديث عن ثورة إيران التي قادها الخميني ومشاكلها لا نرى فيه فائدة تتعلق بالبحث التصحيحي. فإذا كان الباحث يستشهد بالثورة كمثال تصحيحي في المجال الشيعي فهذا لا يستقيم لكون الكاتب تابع بذكر مشاكل هذه الثورة ، فلا يعقل أن يدرج هذا المثال على أساس أنه تصحيحي في حين الباحث نفسه يتحدث عن سلبياته. أما تشريف القرضاوي لدوره في تشجيع ثورتي تونس ومصر والإرتقاء به للمثال التصحيحي فهو باطل محض لأن المشجع المتفرج ليس كالمبادر المشارك، ومعلوم لدى الجميع أن زمام المبادرة في الإحتجاجات يملكه الشباب المعاصر إن لم أقل المواطن المعاصر. كان هذا المثال الأول لخروج الباحث عن موضوع بحثه بأفكار لا تتناسب مع المطلب..

إذا علمنا وبحسب ما أورد السيد زقاقي نفسه أن معاوية هو المنقلب على الخلافة ومؤسس الملك العاض وكونه سن لعن الإمام علي، فهذا دليل على إعتباره وصمة عار وعلم ضلال. فلذا نشكل على الباحث اكتفائه في الحديث عن التصحيح الذي قابل هذا الإنحراف الأموي بمعيار غريب. الا وهو إظهار معاوية كمشكل ثم حفيدة معاوية بن يزيد كحل. فالأول بما قتل وشرد وحرف في الدين كان من الأنسب الإتيان بمثال تصحيحي يعترف بالقتل والتشريد ويحارب الإنحراف والتحريف، ولكن الباحث قابل شنيع العمل بحالة خاصة لرجل إستقال وتنحى عن مملكة بني أمية حتى مات. فهذا تصحيح غير لائق. ثم هناك افراط للباحث في جمع الإنحراف في شخص معاوية مع عدم منطقيته. إذ لو لم يكن لمعاوية جنوداً من الرواة مثل أبي هريرة لما استطاع توظيف الدين لصالحه. فهل الباحث يدين معاوية وينزه الرواة الذين رووا له الفضائل ؟ ثم يدعو المسلمين لما جاؤوا به وتم تدوينه في كتب الصحاح! ثم إذا علمنا من خلال الباحث أن الموروث الحديثي السني تعرض لضغط الحكومات الخلافوية التي حاربت أهل البيت ومع علمنا كذلك أنها كانت مستأسدة على التدوين الحديثي، فلم لا تتعرض الأفكار التصحيحية إلى تدوينات حقبة الملك العاض؟. إذن، الكلام الفضفاض عن مواقف تاريخية لا يفيد التصحيح في شيء.

أما حديث الدكتور زقاقي عن الشعائر الحسينية بإعتبارها إنحرافاً وغلواً في محبة أهل البيت فهو باطل من أوجه عدة -راجع بحث الدكتور: "الجموح العاطفي والتصحيح والثورة" (هسبرس 21 مارس 2011). الوجه الأول يكمن في خارجية المبنى الإستشكالي وهنا الأمر يتعلق بموقف السيد محمد حسين فضل الله المضروب لنا مثالاً. فإذا كان أساس إعتبار التطبير مثلاً عند فضل الله إنحرافاً هو إحتمال تشويه صورة الدين عند الأجنبي ، فهذا يبطل مع ثبوت تفاعل الاجنبي بالإيجاب مع مواكب التطبير في بوسطن ولندن وغيرهما. فلا يكون المبنى في هذه المسألة مدعاً للإعتبار فيبطل أساسه ومترتباته. الوجه الثاني خارجية موضوع الاستشكال وهنا الأمر يتعلق بموقف الشيخ المطهري المضروب لنا مثالاً. إذ لما يذكر الدكتور زقاقي تحديد إنحراف الشعائر حسب الشيخ المطهري فيما لحق بروايات مقاتل أهل البيت من إختلاف في أعداد الجنود والقتلى وما إلى ذلك، فهذا لا يمت للإنحراف بصلة، ذلك لأن السنة هم كذلك يختلفون في تواريخ المعارك والوفيات وما أشبه. وهذا دليل خارجية المشكل الموهم عن موضوع ممارسة الشعائر الحسينية. أما الوجه الثالث فهو تجنب الباحث إيراد المشابه في المجال السني كما هو معلوم عن الزوايا والطرق الصوفية من مظاهر تقديس تجاه الشيوخ والأولياء، ولسنا في المغرب بحاجة لإثبات تسابق المريدين مثلاً لشرب الماء الذي يستعمله شيخهم في غسل يديه أو تسابقهم لاقتطاف شعرة من بدنه أو قولهم طويت الأرض لفلان أوزار النبي فلاناً. فهل هذا أولى بالتصحيح أم ذاك؟

وفي الختام ، أود الإشارة إلى أن أفكاراً بحثيةً باطلة التبويب كما اوضحنا بعنوان غموض الإطار الموضوعي وعمومية القصد، إذا ما اضفنا كونها -أي الأفكار البحثية- فاسدة الجوهر وتؤدي إلى تفرعات أجنبية عن الموضوع المراد ،فإن المسلك التصحيحي المعتمد عليها لا يمكن أخذه بجدية في طرح مواضيع حساسة مثل المواضيع الإيمانية التي تتطلب قبل كل شيء الإنطلاق على أساس مناقشة المسلمات وليس تصحيحها. نقاش متوازن شفافي كما يمكن اقتراحه من شأنه إشاعة ثقافة التعايش فيما بين الخصوصيات الإنسانية الإيمانية من دون أن نحاول إقصاء هذه الخصوصيات تحت عناوين مثل التصحيح والتقريب وما أشبه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2/آيار/2011 - 29/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م