لماذا تستطيع بعض الشعوب والمجتمعات ان تحصن نفسها من امراض
الاستبداد والتخلف والفساد والانحراف، وتقف صامدة امام اي محالة
لانقلاب السلطة والقوى الانتهازية على شرعية الشعب؟ بينما هناك مجتمعات
لازالت غارقة ولقرون عديدة في مستنقع التخلف والاستبداد والفساد،
تتقاذفها جماعات ظلامية نهمة للسلطة المطلقة.
الجواب يكمن في تشكلات الوعي الاجتماعي الذي يقف بمعرفته وعلمه امام
اي انقلاب او استلاب او احتلال خفي، وهذه التشكلات تبرز من خلال قوة
اجتماعية ديناميكية وفاعلة تسمى الطبقة الوسطى التي تجعل منن وعي الشعب
قوة حصينة وسدا منيعا امام الانحراف والانزلاق.
الوعي مصطلح يعبر عن حالة علمية يكون فيها العقل البشري بحالة إدراك
وتواصل وتفاعل مستمر مع محيطه الخارجي وعن طريق منافذه الخمسة المتمثلة
بحواس الإنسان، فالحواس تنقل المعلومات الحسّية إلى جذع الدماغ، او ما
يسمى (التشكّل الشبكي) RETICULAR FORMATION، والذي بدوره ينقل ويوزّع
هذه المعلومات إلى المناطق المختصّة في القشرة الدماغية ثم تغذّي وبشكل
ارتجاعي، التشكّل الشبكي الذي يعمل على نقل ردود الأفعال إلى الأعضاء
الحركية للتعامل معها وفق معطيات يحددها الوعي العقلي للإنسان تماشيا
مع مستجدّات البيئية المحيطة به، هكذا يصف علماء النفس التفسير العلمي
لعملية أو ظاهرة (الوعي).
ورغم وجود نتائج معتدة بها حول (الوعي) ظهرت من دراسات مختلفة حول
علاقة العقل بالجّسد، والتي أثارها الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) في
القرن السابع عشر وتسال فيها، هل للوعي أبعاد (كيان مادي) أم أنه (
كيان غير مادي)؟ هل الوعي هو المحرّك لسلوكنا أو أنه موجّه من قبلنا؟.
غير ان البعض الاخر اعطى (للوعي) دوراً مركزياً و أكثر فاعلية بحيث
اعتبره الشرط الاساسي لنيل اي هدف لدى الانسان عموما، كونه يمثل الطريق
الوحيد للارتقاء بالمستوى الفكري واتساع افاق الرؤية وتقوية خواطر
النظر العقلي في البحث عن التطور والتصاعد العلمي والحياتي، وبالوعي
يرتقي سلوك الافراد وتحدد اهدافهم و ميولاتهم واتجاهاتهم.
فالإنسان غير قادر على احداث اي تغيير لا على سلوكه ولا على تصرفاته
ولا على محيطه الا بعد المبادرة الى تنمية وتطوير ورفد وعيه والنهوض
بمستواه الفكري، لان الانسان بزيادة هذا الجانب انما يزداد بصيرة في
الحياة فيكون له تفكيره الخاص وقراره المستقل الناتج من جمع المعلومة
ورفدها وتحليلها واستخلاص النتائج بطريقة التحليل والمقارنة والمقاربة،
فينجو من اسر التقليد الاعمى والتبعية الفكرية والسير على الموروثات
الخاطئة او التقليدية، وبالنتيجة يتمكن من صيانة نفسه ومن يحيطه من
الانحدار او الانحراف والانشغال بتوافه الامور او مسالك الطغيان
والاستعباد.
ومن اهم نتائج نمو الوعي ورقيه في الفرد والمجتمع هو ظهور (المجتمع
المدني المتحضر)-كما يشير علاء الحسون في كتابه تنمية الوعي- حيث يتحصن
بمفاهيم ومعايير وقيم علمية وعقلية تستمد من اصول شرعية واخلاقية
مضيفاَ لها بصماته العلمية والتاريخية ونتاجات افراده الفكرية، ومثل
هكذا مجتمع فان صفاته تتعدد وتتلون بمكاسب كثيرة منها:
1- احترامه للقانون واعتباره جزء من نسيجه القيمي وثابت من ثوابت
بناءه الذي لا يمكن التخلي عنه أو الانفكاك منه.
2- احترام أفراده للوقت وقيمته وعدم التهاون في التعامل معه
واستخدامه بشكل مثالي لترتيب أمور حياتهم باعتباره معيار هام لتنظيم
وتمهيد الطريق نحو السعادة المنشودة من خلال تحقيق الهدف المرسوم
والمنشود بوقت محدد.
3- محافظة أفراده على الممتلكات والمرافق العامة التي تعود ملكيتها
للدولة وينتفع بها المجتمع و اعتبار تخريبها والعبث بها من المرفوضات
عقلا وشرعا وسلوك غير حضاري.
4- تحلى أفراده بمهارات الحوار الإيجابي وروح تقبل الرأي والرأي
الآخر والابتعاد عن التعصب الأعمى الذي يؤدي إلى إقصاء الآراء وتحييدها
وفرض الرأي الواحد دون النظر إلى كونه سلبي أو إيجابي فينتج عن ذلك
إقامة السدود بين الناس وقطع الروابط وتفكك المجتمع.
5- ربط افراده القول بالعمل بحيث لا يحث الفرد بعمل الا بعد ان يقوم
به شخصيا فيكون مصداقا عمليا لذلك.
6- التعايش مع الأطراف الأخرى بنسب متوازنة وبطرق انسانية.
7- كثرة الانتاج العلمي والاقتصادي ووفرته وتقدم المجتمع فكريا
واقتصاديا وقلة الازمات في مختلف الجوانب وارتفاع دخل الفرد عموما
وحصول الاستقرار الاجتماعي.
8- عدم نشوء الدكتاتوريات في مثل هكذا مجتمع سواء (الصغرى) منها في
الاسر البسيطة او (الكبرى) في الجماعات والمجتمع عموما.
9- تحمل الافراد مسؤولياتهم بشكل شجاع وعدم التهرب والتملص منها باي
حجة واعتبار كل واحد مسؤول بشكل جاد وشخصي عن نجاح المجتمع كلا من
موقعه.
أما كيف يمكن تحصين العلم المحرك للوعي من الانحراف والذهاب وراء
الخرافات، فيقول السيد المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني
الشيرازي (رحمه الله) (... ان ذلك ينتج بمزجه بالخوف من الله والتثبت
بالحقائق العلمية المتفق عليها لا التصورية وبذلك ينجو الإنسان عن
سيطرة رأس المال والديكتاتورية، وإذا نجى الإنسان من هذين، صار العلم
آخذاً بالزمام، لا أن يكون مقوداً للأهواء والشهوات ولا
الانحرافات...).
وفي جانب رفد الوعي وتنميته فلابد من ايجاد الطرق المؤدية الى ذلك
وهي تتمثل في عدة اراء منها:
1- تنوع الفكر وشموليته، حيث يجب التفكير في اتجاهات متعددة ومتنوعة
والنظر من زوايا مختلفة.
2- تحلي الذهن بالمرونة والطلاقة والقدرة على الاتيان بالبدائل
المتعددة والحلول الجديدة، باستخدام المخزون المعرفي للشخص.
3- القدرة على اضافة التفاصيل للحلول والمطابقة الواقعية لها.
4- ادخال البيئة للفرد ضمن طريقة التفكير والتحسس بالعوامل الخارجية
المحيطة ترصينا للفكرة وتزييدا لفاعليتها.
5- تعدد الحلول وعدم الاكتفاء بالفكرة الاولى التي تخطر على الذهن
وايجاد البدائل المختلفة.
6- ترك تقيم الافكار حين توالدها ولان ذلك قد يعيق نموها وتكاملها.
7- المزاوجة الحقيقية بين العلم وثوابت الاديان السماوية وجعلها
حدودا واضحة المعالم لتقبل او رد الآراء المطروحة.
8- القراءة الدقيقة المتأنية لكل فكرة او رأي او موضوع، والتحقق من
ثقلها العلمي والفكري ومدى تأثيرها او تأثرها.
يجمع اغلب علماء الاجتماع بان انتقال اي مجتمع من حياة البداوة الى
حياة التمدن (وليس المدينة) ونمو الوعي فيه مرتبط ارتبطا وثيقا بوجود
الطبقة الوسطى فيه من عدمه، والتي تنتج بالنخب والكفاءات والجماعات
المدنية، كونها قادرة على نشر الوعي في مجتمعها وصاحبة قرار مستقل
وعلمي بعيدا عن اي تطرف او تعصب او تحزب، متخذة من بناء البلد ونشر
الحقيقة هدفا راسخا لا حياد عنه، فاذا ما وجدت هذه الطبقة فان المجتمع
سينمو نموا طبيعيا كونها الحلقة المهمة الواصلة بين عموم الناس وبين
الجهات الحاكمة فهي ستكون متحكمة بمفصل التوجيه والارشاد وقيادة
الشعوب.
فلا يستطيع الاعلى أيا كان صنفه (ديني، سياسي، اقتصادي، اعلامي)
خداع الطبقات الدنيا من المجتمع لانها تشكل العقل الوسطي الموجه للحركة
الاجتماعية، وهي من يحدد نوع العلاقة وكيفية التوازن في بناء الدولة،
ومع نمو الطبقة الوسطى في اجواء الحرية والتعددية فانها تصبح مؤسسة
بنيوية راسخة تمنع اضطهاد الناس وتقف امام دكتاتورية الحاكم وفساد
بطانته، وعندها يكون المجتمع محصنا بوعيه، متميز بفكره، ثابتا في
بنائه.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com/index.htm |