شبكة النبأ: إذا أردنا أن نبحث في
الاسباب التي تقف وراء ما يجري الآن من إنتفاضات وتظاهرات واحتجاجات،
في معظم دول الشرق الاوسط، فإننا نعتقد بأن تكثيف السلطات، وحصرها في
مركز سلطوي واحد، هي الدافع الاول لطلب التغيير والاصلاح السياسي، حيث
تعاني تلك الشعوب المنتفضة من أنظمة سياسية، ذات سلطات مركزية، لاتسمح
للهوامش او الاطراف بالتحرك الحر الذي يتيح لها خيارات أفضل.
بهذا المعنى يكون الهدف من التظاهر هو تفتيت السلطة والحد من
تمركزها في ذات واحدة (فرد أو جماعة)، وهو ما يسمح للجميع بالحصول على
نسبة متساوية من السلطة، ولا نعني هنا بجملة (تفتيت السلطة) إضعافها أو
الانتقاص من دورها الدستوري، وإنما العمل على توزيعها على من يستحق
ممارستها (بعيدا عن التكثيف والتمركز) وفقا للمنهج المؤسساتي المحكوم
بضوابط دستورية تتحرك في ضوئها مفاصل الدولة كافة.
ويتضح من هذا التوصيف، أن الصراع ينحصر بين الديمقراطية كمنهج حياة
متحرر، وبين المركزية السياسية عندما تتحول الى أداة معنوية مادية ضخمة
متسلطة، تهمّش الجميع وتحصر التنفيذ الحكومي ضمن إرادتها المنفردة بكل
مفاصل وأشكال حركة المجتمع، بكلمة أوضح، أن جوهر النهج الديمقراطي
يتمثل برفض تركيز السلطة بيد فرد أو جماعة، ومن ثم الانطلاق نحو
المجالات الاخرى كالاقتصاد والتعليم والصحة وما شابه.
في العراق تجربة ديمقراطية تريد أن تشكل بديلا ناجحا للمركزية
وتكثيف السلطات، هذا ما تعلنه الكتل والاحزاب والشخصيات السياسية
المنخرطة في العمل السياسي، ولكن ثمة فرق بين أن تعلن أهدافك بوضوح
وبين ما تُفصح عنه عمليات التطبيق، فالميدان العملي هو كاشف النوايا
والافكار والاهداف معا، وإذا أردنا أن نسأل أنفسنا كعراقيين، هل أننا
أصبحنا في منأى عن خطر مركزية السلطة وتكثيفها للحد الذي يجعل الاطراف
في مأمن من خطر التهميش؟.
إن الاجابة ستُأخذ من حركة الواقع السياسي، إذ يؤكد عدد من
المراقبين، أن خطر تكثيف السلطات لا يزال قائما، وإذا صحّ مثل هذا
القول، فإن ديمقراطية العراق في خطر، وربما هناك فرصة لعودة العراق الى
الوراء، أي الى مرحلة السلطة الواحدة والصوت الواحد والرأي الواحد،
وهذا يعني عودة الى الشمولية التي دفعت بالعراقيين الى الانتفاض على
حكوماتها السابقة مرات ومرات، ودفعت وتدفع الآن بشعوب الشرق الاوسط
للانتفاض على حكوماتهم الفردية.
هناك دلائل تشير الى خطورة تركيز السلطات، وبعضهم يضرب مثلا عن ذلك
بتبعية بعض المؤسسات والمفوضيات المستقلة الى السلطة التنفيذية، مثل
مفوضية الانتخابات المستقلة والبنك المركزي وغيره، الحكومة تقول إنها
جهة إدارية لا أكثر، فيما يرى البرلمان أنه الأحق بتبعية مثل تلك
المؤسسات له بصفته ممثلا للشعب!.
وبغض النظر عن المنهج التبريري من هذه الجهة او تلك، فإننا ينبغي
أن نعرف ونؤمن ونقرّ بأن مبدأ ومنهج تكثيف السلطات وحصرها في جهة او
فرد واحد لن تخدم الديمقراطية بشيء، وربما تظهر أصوات هنا او هناك بأن
ظروف العراق لا تسمح له باللامركزية (وهو أمر وارد بسبب ضعف المؤسسات
وحداثة التجربة الجديدة)، لكن على المعنيين جميعا أن يدركوا مدى
الاخطار الكبيرة التي تختبئ خلف منهج تركيز السلطات.
ومن يسير في طريق ذاق فيه الويل والموت، عليه أن لا يجرب السير فيه
مرة أخرى، ولعلنا نتفق جميعا على أن ما تقوم به شعوب الشرق الاوسط الآن،
ما هو إلا محاولة للخلاص من طريق الموت والويلات على يد السلطات
المركزية، وإذا أراد المعنيون من ساسة العراق راهنا أن يعرفوا حقيقة
ذلك، عليهم أن ينشّطوا ذاكرتهم كي لا ينسوا أنهم أبناء الديمقراطية
التي رفضت تكثيف السلطات وتركيزها في شخص واحد وحزب قائد. |