ما أشجع الطفل العراقي!

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: منذ سنوات كتب أحد معلقي الصحف الأجنبية أروع كتاباته في اليوم الذي توفيت فيه أمه مقالة عنوانها : (لقد علمتني أن أحب العاصفة).

لقد وصف الكاتب كيف كان في طفولته يشعر بالفزع بسبب الرعد والبرق، وقد اعتاد أن يختبئ مرتعدا في دولاب بغرفة نومه، لكن أمه كانت تأتي إليه وتقتاده من يده الى الشرفة الأمامية، حيث يتسنى له رؤية استعراض العنف السماوي ـ تعبير الكاتب ـ في كامل قوته..

لعلها كانت تصف عظمة الجو الذي يمكن أن ينتج هذه الأشياء، كانت تتحدث عن مدى الامتياز الذي يتمتع به الإنسان الضئيل، حتى تزداد حياته خصوبة بهذه القوة، ولو كان هناك خطر فيها.

تعلم الصبي شيئا فشيئا كيف يحب العاصفة.. لم تعد تخيفه كل الأشياء التي تصنع العواصف في الحياة.. كالجدل والانتكاسات والنقد.

في العراق، في هذا الزمن الذري المخيف، حيث تتضاءل صواعق الطبيعة بجانب البرق الذي يصنعه الإنسان والمفخخات والقتل على الهوية.. المرض والجوع والمحسوبية، أي شيء يمكن أن يتركه الأب والأم لطفلهما أعظم من نعمة (نقمة) التيه في الشوارع، العوق،، اليتم، الفقر، بدون مستمسكات ثبوتية كالهوية..؟!

إنها تصنع الشجاعة! وأي شيء أهم من أن يتعلم الطفل كيف يعيش مع الصاعقة؟.

ما أجمل أن يكون للإنسان طفل..سواء أكانت هناك قنبلة أم لا فأن عرضة بلوغه عيد ميلاده العاشر لم تكن قط أكثر إشراقا مما هي الآن. أنظر الى أية مقبرة، حيث شواهد القبور تحمل علامات تشير الى رفات أطفال، منهم حديثي الولادة.. يبدو الوقت غير مناسب لإنجابهم وتنشئتهم لأنهم بانتظار الموت السريع بالانتهاكات الفتاكة أو البطيء الذي يسري مع الدم. لا يوجد عندنا أطفال يختبئون في دولاب.. فلم تعد هناك أماكن فيها أمن مطلق وأمان نسبي.

الطفل العراقي يعامل كرجل، يشيخ قبل أوانه؛ تتغذى أشجار النخيل الباسقة بالشمس الحارة والنسيم الاستوائي، لكن لبها ناعم (جمار) هكذا تغني الأم لوليدها(عيدك مبارك يا جمار الكلب).

ليس الطفل العراقي كما كتب أحد أدباء مصر:

يا صاعد الشجرة هات لي معك بقرة

تحلب وتطيني وبملعقه صيني

الطفل العراقي، ينازع الحيوانات على النفايات لعله يعيد نظرية البقاء للأقوى، بعد أن كان الصبي يرسل الى الصحراء لتعلم فنون الفروسية والقتال وخشونة الحياة، ليتسنى له أن يكون شيخ قبيلة أو رئيس قافلة.. وليس الى القنابل والمزابل وحافات المياه ومدن الصفيح..

في كل مرة يستأنف الطفل العراقي حياته حين تموت الأم ويلحقها الأب والأخ الكبير والأخت الكبرى ولم تبقي له الحرب شيئا فانه يستأنف المسير في الشوارع والطرقات والأزقة يدفع عربة لا يستطيع جرها الحصان، يحمل بضاعة لا يستطيع حملها الحمار، بأعلى صوته منذ الفجر الذي لا يعرف حدوده يصرخ، خبز يابس، فافون عتيق.. أو يشتري مخلفات البيوت... وإذا تطور الحال يبيع قناني الغاز أو الخضرة.

يبيع مناديل الكلينكس أو العلكة أو أعواد البخور أو يمسح بذراعيه الطريتين زجاج السيارات في تقاطعات الطرق.. انه يستأنف ولا يختبئ في الدولاب في غرفته لأنه ليس له دولاب ولا غرفة ولا بيت أصلا.. يذرع الشوارع بحثا عن عمل كصبغ الأحذية، بيع الملح، جمع علب المشروبات الغازية الفارغة في كيس على ظهره يقطع مسافات طويلة غير قياسية، أحيانا يجمع ثمار النبق.

علمته الحياة أن يجمع جثث الموتى والأعضاء المبتورة وغسل الدم وراء كل تفجير. لا ينهزم من الصوت، بل يتبعه ؛ يسرع وراء سيارات الإسعاف الفوري، وسيارات إطفاء الحرائق. يجمع ما تبقى من حصيلة الانفجارات من ملابس، حقائب طلبة المدارس، أحذية يبدأ بارتداء بعضها ولو على غير مقاس قدمه حتى لو كانت مختلفة اللون والحجم.

يبيع قناني الماء في الشتاء والثلج في الصيف، إذا وجد بركة ماء استحم بها ثم يبدأ بعرض فنون السباحة في تلك (الجيحه) إنها أفضل من مسبح الدرجة الأولى. يستظل تحت بقايا الشجر، ينام بين المقابر، يترقب، يمضي في الحياة بلا وعي أو هدف أو صحة إنه يركض وراء نهايته مسرعا.

ترك المدرسة وزملاء الدراسة، غادر المحلة التي فيها أقرانه الصغار، يعدو، لا يتوقف أبدا، الطفل العراقي! أسرع من متسابق الماراثون ولكن الى القبور، منزوع الثقافة والتعليم والصحة لكنه يعيش على هامش الكرامة يفتش عن الرزق والقوت بين النفايات، يبقى يقاوم ولا ينكسر الى أن يرحل الى منفاه الأخير مجبرا. تقول الناس بعده لماذا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 11/نيسان/2011 - 7/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م