نظام الدولة العراقية والحاجة الى تقويم المسار

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: في العقد التسعيني من القرن الماضي، تحوّل العالم بما لا يقبل الشك، الى عصر العولمة أو التوحّد، وبدأت الأرض فعلا تتحول الى قرية واحدة، من خلال إطلاق وسائل الاتصال الحديثة، وإطلاق الحريات، وتحوّل الحكومات والشعوب المتأخرة، الى عصر الديمقراطية الحقيقية.

في ذلك الوقت كان العراق شعبا وحكومة، يعيش مأزق الانغلاق الطوعي والاجباري معا، تمثل الانغلاق الطوعي بالحجز والحجر، الذي فرضته الحكومة على الشعب، خوفا على نفسها ومصالحا، أما الانغلاق الاجباري، فتمثل بالحصار الأممي (1990-2003) الذي فرضته الامم المتحدة على الحكومة العراقية، بعد اجتياح الكويت، والمفارقة المعروفة، أن الحكومة لم تتضرر من ذلك الحصار، فيما كان الشعب محاصرا بالجوع والقمع والحرمان والموت البطيء.

وطيلة مرحلة الحصار، كانت هناك محاولات وطنية جادة لكسر حالة الحجر والعزل عن العالم، تلك التي عاشها العراقيون قسرا، وذلك من خلال القيام بعدة محاولات لتغيير النظام السابق، والتخلص من العزلة الدولية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، ما قام به عدد من الضباط للاطاحة بالنظام، وكان على رأسهم الشهيد العميد الطيار (محمد مظلوم) لكن القبضة الحديدية العسكرية، والاستخبارية، والمخابراتية للنظام، لم تكن تسمح بمثل هذه المحاولة او غيرها.

حتى وصولنا الى نيسان 2003 وإزاحة النظام السابق، والبدء بمرحلة دخول العراقيين الى عصر القرية العالمية، وكان الامل يحدو الجميع، النخب، العمال، الفلاحون، المتعلمون، الطلاب، بل حتى بسطاء الناس، بأن عهد الحجر والانغلاق والجوع قد ولّى الى الابد، وأن الآفاق قد انفتحت على وسعها لبناء الدولة العراقية الحديثة، وانتعشت الاحلام، أحلام اليقظة، لبناء عراق حديث، مرفّه، متسامح، متنوّع، ديمقراطي، دستوري، يحكمه القانون قبل كل شيء، مستفيدا – العراق- من أخطاء الحكومات الملكية، والجمهورية الماضية، التي بلغت ذروتها، في العقود الأخيرة، من حكم النظام السابق، وقد بلغت الآمال بالناس مبلغا لم تصل إليه في تأريخها المنظور وسواه، وبدت فرصة بناء الدولة العراقية الحديثة، أقرب للعراقيين من أي وقت مضى، وفعلا كلّنا نتذكر الأيام، والأسابيع، بل والشهور الأُوَل التي أعقبت نيسان 2003، لقد كانت أياما وردية، تحرر فيها العراقيون من كابوس الحجر الحكومي للنظام، حتى مظاهر النهب والسلب (والحوْسمة) الواسعة التي رافقت التغيير، تخافتَتْ، وانطفأتْ، وذابتْ سلبياتها في أجواء الفرح والتحرر الذي استشعره الشعب، فبدت فرصة بناء الدولة الدستورية، الغنية، العصرية، أقرب للعراقيين من أي وقت مضى.

ولكن ما الذي حدث فعلا، وهل تحققت فرصة العراقيين في بناء دولتهم الحديثة، أو –على الأقل- وضع الأسس الصحيحة التي تسرّع في بناء الدولة المنشودة، ضمن سقف زمني قصير (عام-عامين- ثلاثة...) ؟.

نأتي الآن الى الاجابة بتروٍ تام، لقد فُوجِئَ العراقيون بانحراف السفين الديمقراطي عن مساره، وشابت حياة العراقيين مآسٍ لم تكن تخطر على بالهم، إبتداءا من العام الثاني، أي عام 2004، حيث بدأت أحلام اليقظة الوردية، تتحول الى كوابيس مرعبة، لقد بدأ الارهاب يضرب جذور وأسس الدولة العراقية الوليدة، وبدأ الدمار يطول المدن العراقية، وتنامى شبح الطائفية والحرب الاهلية، وتم القضاء بطرق مدروسة، على آمال العراقيين، ببناء دولة الحلم، فتحولت بغداد الى مناطق مقطعة الاوصال، معزولة عن بعضها بالكونكريت والجدران العازلة، وصارت الاسواق الشعبية، والساحات العامة، والشوارع، وتجمعات الناس، أهدافا حيوية للارهاب، بغض النظر عن الجهات او الدوافع التي تقف وراءها بسبب اختلاط الاوراق، لقد أصبح عراق الحلم ساحة جحيم فعلية، فصار الموت عنوانا عريضا للزمن العراقي الجديد، فأينما تولي وجهك ثمة موت يتربص بك، وفي ظل هذا الخراب المبيَّت، كان السياسيون أكثر الناس جهلا بتحقيق المخارج المطلوبة، لتأمين حياة الناس اليومية، فما بالك حين تطالبهم بوضع أسس لبناء الدولة الحديثة ؟.

لقد اجتمع الارهاب والمعادون، للتجربة الديمقراطية العراقية الجديدة، والحسابات الاقليمية، والدولية، وكل من لم يعجبه التغيير الحاصل، اجتمعوا جميعا ليجعلوا من العراق خرابا في خراب، والمشكلة التي عقّدت الأمور كثيرا وأضعفت الآمال، معاضدة الفساد الاداري والمالي للارهاب، وكأن العراق أصبح بين فكين قويين مرعبين أطبقا عليه من أقصاه الى أقصاه، وهما الإرهاب المنظّم والفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة كالسرطان، وهنا بدأت أحلام العراقيين تتبخر بسبب الاحداث الساخنة التي تكالبت على حياتهم وتجربتهم الجديدة.

تُرى هل ضاعت فرصة بناء الدولة العراقية المنشودة فعلا ؟ الاجابة هنا أيضا، تحتاج الى تروٍ عميق، ودراسة منهجية موضوعية، لما جرى ويجري في الساحة العراقية سياسيا واقتصاديا وأمنيا، ولاتسع مساحة المقال لذلك.

لقد تعرّض العراق لهزّة زلزالية قلما تعرّض لها بلد آخر، ولقد تم تهديم أركان الدولة السابقة بالكامل، وأخطر ما حدث، أنك صرت شعبا ودولة خالية تماما، من مؤسساتها الأمنية (بعد قرار حل الجيش وعموم الاجهزة الامنية السابقة)، لقد أصبح العراق ساحة مفتوحة للمغانم من دون حماية، فهبّت عليه أفواه الوحوش التي تحيط به، وهجم عليه وحوش آخرون من غابات، وغايات، بعيدة تقع في أقاصي الارض، وبدأ النهش بجسد العراق من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وفي ظل حالة الإهتياج والهجوم هذه، يبدو من المستحيل أن تتمكن حكومة ما، أو ساسة معيّنون، من النجاح في بناء الدولة الدستورية كما يجب، والاسباب كثيرة وبالغة الوضوح، وأولها أنك لم تستعمل كلتا يديك في البناء، فالمعادون (الارهاب والمخاوف الاقليمية وغيرها) لم يتركوا لك الفرصة، فشاغلوا إحدى يديك لمواجهتهم، أما اليد الاخرى فقد انشغلت في الغالب، بمتابعة الفساد المستشري والصفقات المشبوهة، السياسية، والاقتصادية وغيرها، ولم تبق إلا نسبة ضئيلة للنجاح في مضمار البناء، ولوضع الأسس السليمة للدولة العصرية المنفتحة والمستقرة، ومن النجاحات مثلا، إقامة كذا دورة انتخابية نيابية، ولمجالس المحافظات أيضا، كذلك محاولة بناء مؤسسة تشريعية مقبولة، ودار مستقلة للقضاء العراقي، وسلطة رابعة تتمتع بمزايا معاصِرة، تسمح لها بحيّز من المراقبة والمتابعة والتقصي وما الى ذلك.

هذا يعني أن العراقيين -من وجهة نظر شخصية- حتى اللحظة، لم يفقدوا فرصة بناء الدولة الحديثة، ولكن الزمن الذي أُهدِرَ في هذا المضمار، زمن طويل وغال وقد لا يعوَّض، بمعنى أن التباطؤ في بناء الدولة، ليس في صالح العراقيين، حتى الآن، أما مسؤولية ذلك، فهي موزَّعة على الجميع، وأولهم السياسيين الذين تصدّوا لقيادة التجربة الجديدة بمحض إراداتهم.

لهذا نقول إن الفرصة لم تزل سانحة لبناء الدولة العراقية الحديثة، لأن ثمة دلائل تشي ببناء أسس صحيحة لتحقيق الهدف المنشود، وإن الزمن لم يمض بعد في إمكانية بناء الدولة العراقية المعاصرة، لكن المطلوب من النخب والقيادات كافة، وخاصة السياسية منها، أن تدرس أخطاء السنوات التسع الماضية، وأن لا تقع فيها مرة أخرى، ناهيك عن أهمية، بل شرطية، ترجيح الجميع للكفة الوطنية الحقّة، على كل معيار، أو ولاء آخر.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/نيسان/2011 - 5/جمادى الاولى/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م