(1)
يعتبر كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي
أحد أهم كتب علم السياسة في العصر الحديث،لا لأنه كتابٌ جريء في
مضمونه، ولكن لأنه كتابٌ فكري سياسي يعالج موضوعا هو من أهم موضوعات
السياسة، ألا وهو الأنظمة الاستبدادية، وهو أيضا يوافق القول:
" الأدباء والمفكرون هم قرون استشعار الجنس البشري"
فما في الكتاب من آراء، تدفع القارئين إلى أن يظنوا بأن كاتبه ما
يزال يعيش اليوم بيننا، على الرغم من أنه توفي عام 1902.
وإذا كان ابن خلدون قد أرسى نظريات علم الاجتماع بسعة فكره في موضوع
معالجة الدول، قيامها وزوالها، وأحداث التاريخ والعمران؛ فإن عبد
الرحمن الكواكبي يعد من أبرز الكتاب في علم السياسة الذين أشاروا إلى
أدواء المجتمعات السياسية، ووصف بدقة (الاستبداد) وشخَّصه ووصف أعراض
مرض الاستبداد بشمول وباقتدار.
إن هذا الكتاب المحظور من النشر في كثير من الدول العربية هو كتاب
خطير من وجهة نظر الحكام والرؤساء ممن يرون في نشر أفكاره تعريضا
بسلطاتهم وكشفا لخططهم التي تقوم على تجهيل أبناء شعبهم، لكي يأمنوا
ثورتهم وتمردهم، ليظلوا متربعين على سدة الحكم سنوات طويلة، وهم يرون
في الكواكبي محرضا كبيرا على أنظمتهم الاستبدادية، وداعيا إلى الثورة
على كل أشكال الاستبداد.
كما أن الكواكبي قد تعرض للتشويه شأنه شان المفكرين والقادة
والمصلحين ممن حاولوا النهوض بمجتمعاتهم لإنقاذها من كبوة الجهالة
ومستنقع الإذلال، فهو رائد من رواد الإصلاح في العصر الحديث، وهو ضمن
فريق المصلحين الذين تعرضوا جميعهم للإساءة، أمثال جمال الدين الأفغاني
ومحمد عبده وقاسم أمين وغيرهم، وهم مجايلون لعبد الرحمن الكواكبي، فقد
توفي الأفغاني عام 1897 وتوفي محمد عبده 1905، وقد كانوا في خندق واحد
بعد أن رصدوا جميعهم علة ضعف العرب والمسلمين، وأثر الاستبداد الواقع
على كاهلهم.
ومن يدرس مسيرة هذه الحركة الإصلاحية فإنه يصدم عندما يعيد قراءة
أفكار رواد الإصلاح ومن تبعهم من المصلحين، لأن أفكارهم ما تزال صالحة
حتى اليوم، فقد أوضحوا مواطن الداء، ووصفوا العلاج الناجع لكل مرض من
الأمراض في مقالاتهم وكتبهم وصحفهم.
وهم أيضا قد تعرضوا للتهديد والنفي والطرد وحتى التسميم كما حدث مع
الكواكبي.
وإذا أردنا دراسة الحركة الإصلاحية في العصر الحديث لنعرف توجهاتها
وطريقة معالجتها لمرض ضعف المسلمين والعرب فإننا لن نجد وثيقة أكثر
دلالة في نمط المعالجة لأحوال العرب والمسلمين المتردية، وضعفهم
وهوانهم بعد عزتهم ومنعتهم السالفة، من كتاب طبائع الاستبداد ومصارع
الاستعباد.
وقد حاول الكواكبي أن يعالج ظاهرة الاستبداد، بدون أن يتعرض للحاكم
المستبد، وهي محاولة منه للنجاة من المساءلة، ولم تثمر محاولته تلك،
فقد فطن الحكام والمسؤولون إلى حيلته وتخلصوا منه في النهاية، فما يزال
موته بالسم لغزا من الألغاز التي لم تحل بعد، شأنه شأن الكاتب الكبير
ابن المقفع في منتصف القرن الثامن للميلاد، وهو الذي كتب كليلة ودمنة
والأدب الصغير والأدب الكبير، وعشرات الكتب الأخرى، والذي صلبه سفيان
بن معاوية أحد أتباع الخليفة المنصور وقطع أعضاءه جزءا جزءا، وشواها
أمامه وجعله يأكلها، في أبشع جريمة من جرائم التاريخ لأنها قدّم له
كتابا في طريقة الحكم العادل للولاة والأمراء، فظنّ الطاغيةُ بأن
الكتابَ تعريضٌ به!
يبدأ الكواكبي بتعريف الاستبداد من خلال مجموعة من الأسئلة المتعددة
الأنماط والتي سوف يعالجها في الكتاب، وكأنه يشوق القارئ إلى فصول
الكتاب التالية، فهو يقول :
ما تأثير الاستبداد على الدين، على العالِم، على المُجِدِّ، على
الأخلاق، على الترقي، على التربية، على العمران ؟
كيف يكون التخلص من الاستبداد؟
وبم يُستدل على الاستبداد ؟
ثم يضع تعريفا محكما للاستبداد فيقول :
" الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما، التي تتصرف
في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب، وهي تشمل حكومة
الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة "
ويشمل تعريف الحكومة المستبدة أيضا :
" الحاكم المنتخب من الشعب متى كان غير مسؤول "
ويشمل أيضا :
"حكومة الجمع ولو كانت منتخبة أيضا، لأن المشاركة في الرأي لا تدفع
الفساد "
وتشمل أيضا:
"الحكومة الدستورية المفرقة بين قوة التشريع وقوة التنفيذ والمراقبة"
ولعل أشد مراتب الحكومة المستبدة التي يُتعوذ بها من الشيطان هي :
"حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش القائد للجيش، الحائز على سلطة
دينية "
فالاستبداد عند الكواكبي إذن هو دولة المسؤول الفرد الحاكم المطلق
الذي استولى على الحكم بالقوة والغلبة، أو الذي استولى على الحكم أيضا
بسطوة الوراثة، فكلاهما لا يمتان للديمقراطية بصلة، فالأولى جاءت
بواسطة إراقة الدماء، والثانية جاءت بالتضليل الوراثي !
كما أن الحكومة المنتخبة أيضا قد تكون استبدادية إذا كان الحاكم
المنتخب (غير مسؤول)
وكذلك حال حكومة الجمع المنتخبة قد تكون أيضا مستبدة لأن الجمع لا
يلغي الاستبداد.
وكذا الحال في الحكومة الدستورية التي يفصل دستورها بين التشريع
والتنفيذ والمراقبة.
إذن فهو يشير بوضوح إلى أن معظم دول العرب وكثير من دول العالم تعيش
حالة الاستبداد، في ظل أنماط الحكومات الديكتاتورية
وهو يشير في بداية كتابه إلى أخطر نتائج الاستبداد:
(إرساء جهالة الأمة، والجنود المنظمة، وهما أكبر مصائب الأمم)
وهو يقصد بالجنود المنظمة، تجنيد وتطويع الجيش الخاضع للحاكم
المستبد الذي ينفذ أوامره، مما يشيع الرعب في نفوس الرعية.
وهو يصف المستبد بأنه دائم الاستعداد للشر، وهو يسعى دائما لترويض
رعيته بحيث يكونون كما الأنعام تمتلئ ضروعها بالخير، أو يكونون كالكلاب
في التذلل والتملق.
(2)
ويُرجع الكواكبي أسباب استبداد الحاكم إلى الاستبداد الديني، كلاهما
يتعاونان لإذلال الرعية، والفرق بينهما أن الإذلالَ السياسي يُنهك
الأجسام، بينما الإذلالُ الديني يُنهك القلوب والعقول، ويشير إلى
تعاليم البوذية واليهودية التي تهدد أتباعها بالكوارث في الحياة إن هم
شذوا، أو كالنصرانية والإسلام تهددهم بعد الممات وفي الحياة أيضا،
والنجاة عند تلك الشعوب المُستبَدِّ بها طريقها (الحُجّاب) من الكهنة
والقسوس وأمثالهم، ممن لا يأذنون للناس بدخول جنة النعيم (ما لم
يعظموهم مع تذلل وإصغار ويرزقونهم باسم نذر أو ثمن غفران، حتى أنهم
يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربها ما لم يأخذوا عنها مكوس المرور
إلى القبور، وفدية الخلاص من مطهر الأعراف) !
ويصل إلى خلاصة تقول : (ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية
يشارك بها الله) !
ويشير إلى طائفة الكهنة والقسوس والشيوخ وهم وسطاء باسم الأديان،
ويتهمهم بأنهم يعمدون من أجل ترسيخ نفوذهم إلى تقسيم الناس إلى شيع
وأحزاب متصارعين، يعادون بعضهم بعضا (فتتهاتر قوة الأمة، ويذهب ريحها،
فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ).
ويعرض الكواكبي رأي الماديين الشيوعيين الذين قالوا بأن الدين يؤثر
في الحياة الاجتماعية تأثيرا سلبيا خطيرا، يشبه تأثير المخدر، ويذهب
بعضهم إلى اعتبار الدين قوة تضاد العقل والتفكير، وهو يؤيد هذه الأقوال،
ولكنه يرى بأن الأديان المقصودة هي الأديان الخرافية الخالية من الحكمة،
أما دين الإسلام الموصوف بدين الفطرة فلا تنطبق عليه الأقوال السابقة!
وهو يستدرك قوله بأن الإسلام الذي يقصده هو الدين الإسلامي الصحيح
وليس ما يدين به أكثرُ المسلمين الآن، أي أنه دين القرآن، المفهوم من
الجميع، غير المقيد (بتفصح زيد أو تحكم عمرو)
ويحدد معنى الإسلام الذي يقصده :
" إذا أخذناه وقرأناه بالتروي في معاني ألفاظه، ويضيف إلى ذلك "
تفهم أسباب النزول" فليس في القرآن سوى حِكَمٍ جليلة عظيمة.
فالإسلام عنده دين سمح بسيط لكل من يعي تعاليمه، فإنه لا يخاف من
مُلِك أو مَلِك ولا يخشى رسولا أو نبيا، ولا ساحرا أو كاهنا، أو شيطانا
أو سلطانا.
والكواكبي يُبرِّئ الإسلام من أن يكون دينا كبقية الأديان، ويأسف أن
يتحول الدين الإسلامي السمح بفعل ظلم الجاهلين له واستيلاء المستبدين
عليه، أو المرشحين للاستبداد، إلى فريسة، ويأسف أن يُتَّخَذَ وسيلةَ
تفريقٍ وتقسيم للأمة، حتى أنه يستخدم تعبيرا جميلا لسرقة الدين الصحيح
في قوله:
(سطا عليه المستبدون)
ويتهم المستبدين الجاهلين بإساءتهم للإسلام، حين أدخلوا فيه ما ليس
فيه حتى جعلوه دينا حرجا.
ويشير إلى أبرز قضايا الدين الإسلامي خطورة حين يَتَّهِم المتفيهقين
بأنهم جعلوا كل ما دوَّنه أدعياءُ الفقه في كتبهم، ركنا رئيسا من أركان
الدين الإسلامي، فصار هذا الدينُ السهلُ صعبا، لا يقوى على القيام
بواجباته وآدابه إلا من لا علاقة له بالحياة الدنيا !
ويتعرض الكواكبي للعلوم التي يحرمها الحاكم المستبد والعلوم التي
يشجعها فيحدد بخبرته وسعة أفقه العلوم التي لا يخشاها المستبد، وهي:
علوم اللغة وعلوم الدين المتعلقة بالآخرة، ويجعلها عديمة الجدوى
لأنها لا تزيل غشاوة الجهل، وتملأ الأدمغة غرورا ويشبه المهووسون بها
بالسكارى إذا خمروا !
وهو يستثني من ذلك كل الذين تفيدهم علومُ اللغة حكمةً وعلما، تنورهم
وتبصرهم وتوسّع مداركهم.
والمستبد لا يخاف أيضا من العلوم الصناعية، لأن أصحابها يكونون صغار
النفوس مسالمين يسعون لمصلحتهم الشخصية ويسهُل على المستبد شراؤهم !
أما العلوم المرعبة للمستبد فقد فصلها الكواكبي :
((هي الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع
والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم
التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو
مغبون فيها)).
ويشير أيضا إلى أبرز قضايا الاستبداد، وهي قضية كره المستبد للعلماء،
فالمستبد لا يرتاح للعلماء لأنهم يذكرونه بجهله، لذلك فإنه يعمد إلى
إذلالهم وتقريب طائفة منهم تتصف بالضعة والمهانة.
فهو حين يُضطر للاستعانة ببعضهم كالمهندس والطبيب، فإنه يختار الغبي
المتصاغر المتملق. ويستشهد بقول ابن خلدون(فاز المتملقون)
(3)
يستخدم الكاتب مهارته الفكرية والفلسفية في تحليل الاستبداد لغرض
تعميق فهمه، وبيان أثاره على الرعية فيقول:
" الاستبداد قَلَبَ الحقائقَ فجعل الرعية خادمة للراعي "
لعل أخطر آثار الاستبداد، هو أثرها على الأخلاق، فالاستبداد المدمر
للبنية الأخلاقية في المجتمع يسير في مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى هي إضعاف منظومة الأخلاق في المجتمع، ثم تأتي
المرحلة الثانية وهي إفساد الأخلاق،ثم يقوم الاستبداد في المرحلة
الأخيرة بالقضاء التام على الأخلاق.
ويرصد الكاتب كيفية تحويل الفرد المحب لوطنه بفعل ظلم المستبد
واعتسافه إلى شخص كاره للوطن راغب في الهجرة منه، فيحول الاستبدادُ
أبناءَ الوطن إلى أجساد بعد أن يغتال منهم أرواحهم، فيصبح الفردُ
المستبَدُّ به كارها لوطنه عازفا عن حب أسرته، مما يُعرضه لغزو الأمراض
فيصبح عليل الجسم مما يفقده القدرة على التفكير والإحساس !
ومن أبرز استنباطات الكواكبي لأثر الاستبداد على المنظومة
الأخلاقية أنه أشار بوضوح إلى تغيير مفاهيم الصفات الخلقية التقليدية
الراسخة والتعريفات الأساسية لمنظومة الأخلاق، وكيف استبدلت بفعل
الاستبداد بحيث ظهرت تعريفات جديدة للأخلاق منها:
طالبُ الحق أصبح في عهد المستبد ليس مظلوما يستحق الإنصاف، بل (فاجرا)
وأصبح تارك حقه (مطيعا)
أما المشتكي المظلوم فقد صار في زمن المستبد (مفسدا).
أما النبيهُ المفكر المستقصي فهو (ملحد)
والخاملُ في عهد المستبد إنسانٌ (صالح)
أما الشهامةُ فهي تجبُّر (عتوٌّ)
والحَمِيِّة (حماقة)
والرحمة (مرض)
والنفاق (سياسة)
والاحتيال والكذب والمكر (كياسة)
أما الحقارة والدناءة فهي (لطف)
وكذلك فإن النذالة (دماثة)
وهو يعرض بعد ذلك قولا مغلوطا يتناقله كثيرون من العوام حين يقولون:
إن الاستبداد يقلل الجرائم ويزيل الفسوق والفجور فيرد :
"هذا قولٌ مغلوط لأن الاستبداد يقلل الجرائم عن ضيقٍ وخوف، وليس عن
عفة وتدين وأخلاق"
وهناك فرقٌ بين الأمرين، فتقليل الجرائم عن خوف وفقر هو أمرٌ طارئ،
أما إزالة الجرائم عن تعفف وخلق فهو المطلوب.
وكذلك يقولون بأن الاستبداد يقلل العقوبات، غير أن الحقيقة في رأي
الكواكبي هي أن العقوبات يَقِلُّ تعديدها لا عددها، أي أنها تستمر كما
هي ولكن في الخفاء!
وهو يشير إلى مرتبة أسرى الاستعباد، فهو يشبههم تارة بالأنعام
والكلاب، وطورا آخر بالريش الذي يطير مع الرياح !
وهو يجعلهم في مرتبة أقل من مرتبة الحيوانات، فالأسير الواقع تحت
نير الاستعباد غيرُ مُؤاخذٍ عقلا وشرعا، فهو يتحرك بإرادة غيره، لا
بإرادة نفسه!
ومن الآثار الخطيرة للاستبداد أيضا أنه يُرغم البقية الصالحة في
المجتمع على اعتياد النفاق والرياء، ويضرب أمثلة لحِكَمٍ قاتلةٍ
متداولة،فرضها المستبدون على رعيتهم، ومن أمثال الأقوال القاتلة التي
تتداولها الألسنة:
(إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب)
(السلطان ظِلُّ الله في الأرض)
(الملوك ملهمون)
ويورد آية قرآنية يقرؤها كثيرون بدون إكمالها:
" لا يُحب اللهُ الجهرَ بالسوء من القول"
ولا يكملون الآية " إلا مَن ظلم "
ويخلص الكواكبي إلى نتيجة وهي أن كل الأمم الواقعة تحت الاستبداد
تفسر سبب بلواها بأنه راجعٌ إلى تقصيرها في أمور دينها، وهم يعنون
بالتقصير في أمر الدين (القيام بالعبادات) فقط !
وهذا التفسير من وجهة نظره لا ينفع، لأنه قولٌ بلا فعل، وهو يشير
هنا إلى انفصال الأقوال عن الأعمال عند أدعياء الدين، فهناك فرق بين
الأخلاق والعبادات،
وهو يشير إلى أن الاستبداد يفسد أهم أركان الدين وهو الأخلاق، ولكنه
لا يتعرض للعبادات الشكلية التي يستعملها كثيرون رياءً، فمن يستعمل
الرياء مع ربه يستعمله أيضا مع أسرته ومع أفراد جنسه، وحتى مع نفسه.
(4)
يشير الكاتب إلى خطر الاستبداد على الصحة العامة، وكيف يُحوِّل
الاستبدادُ الصحةَ مرضا من الأمراض، فتتحول أثار الاستبداد إلى مجموعة
من الأمراض النفسية المجتمعية.
(يتولى الاستبدادُ المشؤوم تربيةَ الناس)
وهكذا يصرف الاستبدادُ الناسَ عن تربية أبنائهم وفق المفاهيم
الخلقية الراسخة، وتنحصر لذائذهم في لذتين اثنتين فقط هما :
لذة الأكل حيث تتحول بطونهم إلى مقابر للحيوانات أو لنفايات
النباتات.
أما اللذة الثانية فهي لذة الرعشة الجنسية.
وينشغلون باللذتين عن التربية الصحيحة السليمة.
كما أن الآباء يشعرون بعبث التربية الصحيحة، فإذا ربوا أبناءهم
تربية صحيحة فإنهم سيؤذونهم ويجنون عليهم عندما يجدون صعوبة في تطبيق
مبادئ الأخلاق في عهد الاستبداد، لذلك فهم يتركونهم لتربية الشارع،
فيبقون هملا جاهلين.
ويعتاد المستبد بهم إظهار المسكنة والذلة ويخفون أثر النعمة والعلم
تجنبا للحسد أو لمخابرات السلطان المستبد.
ومن الآثار النفسية الخطيرة للاستبداد أن المستبد بهم ممن لا يقوون
على مواجهة المستبد يختزنون كره المستبد في نفوسهم مما يدفعهم إلى
التنفيس عن رغباتهم الداخلية بصورة أخرى، فبدلا من مواجهة المستبد،
فإنهم ينفسون غضبهم في وجه فئة مستضعفة أو غريبة بينهم، وينفسون عن
غضبهم في نسائهم الضعيفات، وهم عند الكواكبي كالكلاب الأهلية، التي
تربط في النهار، وتُطلق في الليل لتصبح شرسة عقورا !
وهو وإن استبعد ثورة العوام على المستبد إلا انه يرى بأن هناك شروطا
لثورة العوام على المستبد منها:
وقوع مجزرة دموية، أو دخول المستبد في حرب نتيجتها الهزيمة أو
إهانة المستبد للعقيدة والدين أو فرض ضرائب ومكوس باهظة على العوام أو
انتهاك الأعراض، فهذه كلها محرضات على ثورة العوام على الاستبداد !
وليس منها بالطبع الرغبة في التحرر أو إقامة حكم عادل !
وهو يستثيرُ هممَ الرعية ويحرضهم على الاستبداد بصياغة تشبيهات
تساوي بين الخانعين والبهائم الأهلية.
(الواقعون تحت الاستبداد هم دودٌ تحت صخرة)
ويعلن الكواكبي رأيه بصراحة ووضوح في الطغاة المستبدين ممن يتولون
الحكم وفق وصفه السابق فيقول:
(لا يوثق بوعد من يتولى السلطة، أيا كان ولا بعهده ويمينه على
مراعاة الدين والتقوى والحق والشرف والعدالة ومقتضيات المصلحة العامة)
نظرا لاعتياد رعية المستبد الظلم والخوف والجبن، فإنهم يألفون الكسل
والهوان، ولا يسمعون دعوات النهوض والإصلاح، والكواكبي يشبه الأمم
المستبد بها كالبهائم الأهلية التي تموت إذا أُطلق سراحها، بعد أن
اعتادت حياة الذل !
وأمثال هذه الأمة لا تسأل عن الحرية، ولا تعرف للاستقلال قيمة، كما
أنها لا تسعى للانتقام من المستبد إلا نادرا، وإذا فعلت، فإنها تفعل
ذلك، لا للانتقام من النظام الاستبدادي، بل تفعله انتقاما من شخص
المستبد، وقد تستعين بمستبد آخر !وهكذا تستبدل عبوديتها السابقة
بعبودية أخرى جديدة.
كما أن المستبد بهم إذا نالوا الحرية عرضا، فإنها تنقلب إلى فوضى،
ويشبه الكواكبي هذه الحالة بحالة المريض حين ينتكس !
ويختم الكواكبي كتابه عارضا طرائق التخلص من الاستبداد منها:
أن تستعد الدول بالتثقيف لتقبل الحرية المخطط لها بعد أن تقوم
بتنبيه حس الأمة بمخاطر الاستبداد، وهو ينصح المستبد بهم أن تكون
ثورتهم سرية على المستبد، فيحذرهم من المستبد حين يشعر بالخطر فينكل
بالمجاهدين الثائرين وأساس النهوض من كبوة الاستعباد عند الكواكبي هو (العلم)
وهو يقصد بالطبع العلوم النافعة التي عدَّدها سابقا.
وهو أيضا يحرض الرعية على سحق الاستبداد وهزيمته باستخدام أسلوب
التشبيه فيقول :
إن الرعية الأحرار يجب أن يكونوا كالخيل(إذا خُدمتْ خَدمت، وإذا
ضُربتْ شرست) أو أن تكون (صقورا لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصيد
كله)
(5)
نبوءة الكواكبي
ويتنبأ الكواكبي نبوءة تشير إلى قدرته وثقافته وسعة معارفه النابعة
من تجاربه الواسعة حين يقول سوف تصل الأمم إلى يوم يقل فيه التفاوت في
العلم بين البشر، ويصبح البشر متساوين، فتنحلُّ السلطةُ، ويعيش الناسُ
بشرا، لا شعوبا ولا دولا.
وهو بهذا قد وضع في سطور قليلة تعريفا شاملا جامعا لعصر العولمة
والألفية الثالثة.
عبد الرحمن الكواكبي 1848- 1902
ولد في حلب وعين محررا في صحيفة الفرات وأجبر على تركها ثم في
صحيفة الشهباء 1877 التي كان يملكها هاشم العطار، وكتب عن الظلم
والاستبداد مما دعا الوالي العثماني كامل باشا أن يصدر أمرا بإغلاق
الجريدة.
درس الحقوق وتولى عدة مناصب في حلب، منها مدير مطبعة حلب وكان عضوا
في لجنة المعارف وصار رئيسا لبلديتها، ثم استقال وصار محاميا خاصا.
سافر إلى كثير من الدول الآسيوية ووصل إلى الصين ثم سافر إلى مصر
وهناك توفي بعد أن شرب كأسا مسموما من القهوة 1902.
له كتابان ومئات المقالات. والكتابان هما:
أم القرى كتبه باسم مستعار (الفراتي) وكتاب طبائع الاستبداد.
(انتهى) |