ان العدالة هي الفضيلة الأولى
بإطلاق بالنسبة للمؤسسات الاجتماعية
تكثفت العودة الى المدونة القانونية في هذه الأيام التي تأتي بعد
ثورة شعبية عربية عمت مختلف الأقطار العربية من المحيط الى الخليج ومن
الغرب الى الشرق وظهر أساتذة القانون والمحامون وفقهاء القضاء في
المشهد وتصاعدت تصريحاتهم وبياناتهم وتعددت اجتماعاتهم ولجانهم وأصبح
تدخلهم في الشأن العام حيويا وتأسيسيا بعد أن كان استشاريا واصلاحيا
وعوضوا بالتالي رجال السياسة والاقتصاد والثقافة.
غير أن تسليم رقاب الخلق الى القانونيين بهذه السرعة والسهولة
وادعائهم النقاء الأصلي والعفة الأخلاقية والوفاء لقيم الثورة وتحميلهم
مسؤولية تسطير المستقبل للأوطان في ظل وضع أصلي يثير الكثير من الريبة
ويدعو الى الاستغراب خاصة في ظل أسلوب العمل الذي يتبعونه وطريقتهم
الأحادية في برمجة المرحلة القادمة واعتقادهم في امتلاك الحقيقة
المطلقة والتفكير الصواب دون الدخول في نقاش عمومي واسع يتم تشريك فيه
العديد من المختصين ودون أن يخضعوا المدونة القانونية الى النقد
والتصويب.
هنا يتدخل المشتغل بالفلسفة والمتسلح بالحذر والتعقل من أن يذكر
بعدة حقائق ووقائع:
الأولى هي أن الأنظمة الشمولية التي هي في طور التفكك بفضل الثورة
كثيرا ما استعملت رجال القانون من أجل فرض شرعيتها وتأبيد حكمها.
الثانية هي أن السقف الذي تتحرك ضمنه المدونة القانونية هي الأسس
الاجرائية والخلفية النظرية والسياق الاجتماعي ولذلك يجدر بنا التمييز
بين العلوم القانونية وفلسفة القانون وبين القضاء وفقه القضاء وبين
القانون الوضعي والحق الطبيعي وغالبا ما يكون علو الكعب للثانية على
الأولى.
الثالثة هي أن المعالجة القانونية تتميز دائما بالنسبية والتاريخية
ولا يمكنها أن ترتقي الى الإطلاقية والعلوية الا بفضل الاتفاق والاجماع
والنجاعة التي تبديها في ايجاد مخرجا للوضعية السياسية المأزومة.
الرابعة هي أن القيم التي ينبغي على رجل القانون أن يحترمها ويأخذها
بعين الاعتبار هي قيم الثورة وخاصة الحرية والعدالة والكرامة والشخص
وأن الأفق هو التعددية والديمقراطية.
الخامسة هي أن رجال القانون الذين وقع تكليفهم بايجاد مسالك قانونية
للخروج من وضعية اللادولة الى وضعية الدولة يجب أن يكونوا قادرين على
الاستعمال العمومي للعقل ومحايدون وينتصروا الى المصلحة المشتركة
ويكونوا على جهل تام بمصالحهم الشخصية ومآربهم الضيقة وغير متحيزين
لشركاء الهوية التي ينتموا اليها ويضمنوا مشاركة الكل في تسيير الشأن
العام وتكافؤ الفرص بين الجميع.
في هذا الصدد تظهر البعض من الترددات والمحاذير بخصوص هذا البروز
القوي وهذا الصعود الكاسح وينتاب الشك في العديد من العقول التي وقفت
الى جانب الثورة حول المصير المجهول والحاضر المتوتر.
من هذا المنطلق يجب أن يخضع رجل القانون عمله التأسيسي لهيئة من
الحكماء والمحكمين تضم جملة من فلاسفة القانون وفقه القضاء والفلسفة
السياسية وذلك بغية استنطاق المدونة المزمع الاحتكام اليها وتحديد
رهاناتها والكشف عن مسلماتها الضمنية وقياس مدى ملاءمتها مع الواقع
الاجتماعي.
ان الالتزام بالحياد التام في الوضع الأصلي من طرف رجال القانون هو
شرط امكان قيام نظام ديمقراطي وان العدالة التي ينبغي أن تفرض ليست في
العمل أن تكون مصلحة الأقوى أكثر امتيازا بل في الأخذ بعين الاعتبار
وتحقيق مصلحة الفئات أقل حظا والأكثر ضعفا. كما ينبغي الايمان بمبدأ
التعاون بين القوى المتعددة والمختلفة بنيويا كعنصر تكويني للجسم
السياسي وكشرط استراتيجي لقيام الجماعة المدنية.
على هذا النحو ينبغي أن يوجد الناس في وضع أصلي يكون منصفا بالنسبة
الى الجميع ويضمن لهم حقوقهم بشكل متساو ومتوازن ويقطع السبيل أمام
امكانية عودة الأمور الى ما كانت عليه وتشكل نظام شمولي تسلطي جديد.
كما يجب تسوية مشكل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية خاصة حول
الملكية بحيث تكون لصالح الفئات الفقيرة وغير المحظوظة وتحقيق الترابط
بين الحرية المتساوية والمساواة المنصفة في الفرص.
المشكلة التي تطرح دائما هي أن الخطاب القانوني قد لا يعكس الخطاب
الثوري وذلك لاستناد الأول الى العقلانية والواقعية ولاحتكام الثاني
الى الحماسة والحلم والمثالية. كما أن المدونة القانونية تظل عاجزة عن
ترجمة القوى الثورية الفاعلة والعقل الجمهوري والارادة الشعبية التي هي
سر نجاح الثورات العربية.
فماذا لو لم يقدر رجال القانون على وضع مدونة انتخابية ودستورية
تحدد ملامح المرحلة القادمة؟ وأليس من الأجدى استشارة الفلاسفة
وتشريكهم في صناعة القرار وبلورة مفاتيح الفهم للواقع الاجتماعي المعقد
ولاستشراف الزمن الآتي؟
* كاتب فلسفي
........................................................
المرجع:
John Rawls La théorie de la justice. Edition Seuil
Tradition Edouard Tuoudor. Editions du Seuil, Paris, 1987. |