السجن ليس أرحم

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: الإرادة والإدراك هما الركن المعنوي أو النفسي للجريمة يعتبران مهمين جدا في حالات الإجرام العقلي من ناحية المسؤولية الجزائية، حيث ان فقد الإدراك أو الإرادة أو ضعف فيهما يعتبران من موانع المسؤولية الجزائية .

لذلك فالشخص المصاب بالجنون أو بعاهة العقل سواء كانت ذات أصل عقلي أو نفسي، هو كالصغير دون سن التمييز(السابعة)، حيث كلاهما تنقصهما القدرة على تكوين التصور الإجرامي لعدم اكتمال مداركهما الذهنية .

ان مسؤولية المتهم الجزائية عن الحادث الذي ارتكبه تنعدم كليا إذا كان الجنون أو العاهة العقلية قد أفضيا الى فقد الإدراك أو الإرادة، فعندما يتعذر تطبيق العقوبات الجزائية عليه لعدم جدواها بالنسبة له طالما كان لا يفهم ما أهميتها أو أهدافها الاصلاحية.

إلا أن ذلك لا يحول دون تطبيق التدابير الاحترازية ازاءه ووضعه في السجن أو مستشفى علاجي بغية علاجه وإبعاد خطره عن الآخرين في المجتمع، هذا يرجع الى القاضي لأنه يكون حرا في تطبيق ما يراه مناسبا.

ان النفس البشرية لها أجهزة وأعضاء تعتمد عليها في الحياة لاجتماعية، على مثال الجسم الإنساني سواء بسواء. لنتصور شخصا ربطت قدماه ويداه وظل مشلول الحركة بضع سنين، ثم جئنا به في النهاية وألقيناه في ميدان الحياة الاجتماعية، وطلبنا منه أن يمشي على قدميه دون أن نمنحه عكازا يتكئ عليه، الا يكون معذورا إذا ما كبا؟

السجن هو إصلاحية، للكثير من الخارجين عن القانون والأعراف والتقاليد، بنفس الوقت، ان السجن ما زال أبرع مدرسة يلقن فيها نزيله صنوف الإجرام. فنزيل السجن الذي يستنشق هواء الانحرافات المختلفة، السهلة منها والصعبة، صباحا ومساء لا يأمن على نفسه من أن تتلوث بعدوى الشذوذ وجراثيمه، مهما كان طيب عنصره، خاصة إذا ما طال به المقام في بيئة السجن وكان من المرضى المصابين بأمراض نفسية. السجن مازال لا يصلح علاجا ناجعا للإجرام باعتباره مرضا وينقل العدوى، لأن من شأن ذلك ان تحرمه من العلاج ومن نور الحياة الاجتماعية الطبيعية واستنشاق هوائها الصالح، وكلاهما لازم لغذاء روحه المعنوية المعتلة، مثله في ذلك مثل المريض بذات الرئة، الذي يعزل في مكان لا شمس فيه ولا هواء ولا غذاء صالحا. فطيب عنصره وتربيته وتحصيله الدراسي ومرضه اللاإرادي لا يغن في تحصين نفسه ضد بيئة السجن التي سوف يكون لها أثر مطبوع على سجيته.

 ان المتعمق في دراسة الطبيعة البشرية، والباحث وراء أخطاء الناس لمعرفة أسباب الخطأ وبواعثه لا يلبث أن تبهره العبارة التالية، هي ان كل مخطئ في الحياة معذور خاصة المريض النفسي، لأنه يعتبر فاقد الأهلية.

هناك عدد غير يسير من مرضى النفوس، كانت صحف سوابقهم مليئة بالأحكام القاسية لم تردعهم قساوتها، ما ذلك إلا لأنهم كانوا مرضى بعقولهم ونفوسهم، لم يفطن القضاء والمحققون الى حقيقة حالهم، في حين ان مستشفى الأمراض العقلية والنفسية كانت أولى بهم من غياهب السجون.

مرضى النفوس من غير المجانين، ممن لا تبدو عليهم أعراض المرض أعم وأكثر انتشارا بين الناس دون تمييز بين مجرمين وغير مجرمين، لكن نسبتهم في الإجرام بطبيعة الحال أعلى وأعظم منها في سواهم، لأن المجرم المحترف قوي الإرادة، يخطط لجريمته أما المريض النفسي مخالفاته من النوع العفوي التلقائي، غالبا غير مخطط لها.

يقول رجال العلم النفساني ان المصابين بالصرع أو الفصام أو الكآبة .. معرضون لنوبات تهيج عصبي وانفعالي قد يدفعهم الى الاعتداء على الغير مغلوبين على أمرهم، وقد يرتكب بعضهم القتل خلال النوبة التي يكون فيها المريض فاقد الشعور، لا يعي ما يأتيه أو ما يصدر منه من الأفعال، وإذا صدرت فهو غير شاعر بها.

هذه الفترات قد تتقدم نوبة الصرع أو الأمراض النفسية الأخرى، قد تكون أحيانا بديلا عن نوبة الصرع، والمرض في هذه الفترة لا يعد في نظر العلم مسئولا جنائيا عن عمله. إذا ما عرفنا كل ذلك فقد نرتكب خطا في حجزه في السجون بدلا من المستشفيات النفسية والمصحات العقلية.

ان بعض القضاة يطبق القانون بكل صرامة وقسوة بحجة حفظ النظام وتأدية واجب مقدس وصيانة حرم العدالة، لا يرحمون المتهم المعتل نفسيا، حيث يقدم المتهم الى المحكمة وهو مقيد بالحديد لخشيتهم من مرضه أو ردود أفعاله، فهل هذا يوضع في سجن؟ وكيف يكون حاله؟ ان القيد المادي مكروها بفكرة تقييد حرية المتهم في الدفاع، فان القيد الأدبي أشد فعلا في نفسه من هذه الناحية، نحن لا نقول بعدم الحساب وحماية المجتمع منه، لكنه، هو أحوج الى الحماية من نفسه ومن الآخرين، كذلك الى الرعاية والعلاج. لأنه متهم وقام بجرمه بالمصادفة، بدون وعي، هو حديث عهد بالإجرام لم تجمد عواطفه بعد، تراه أحيانا يبكي من تصرفه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/آذار/2011 - 21/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م