ثورة وتناقضان:
دين الله لا يأخذ بالتناقضات، والعالم هو النجم الهادي للأمة إذ
يضيء في أوقات الدياجي والغسق كما يضيء القمر ليلة البدر، ولكن
التخبطات والتناقضات تجعل الأمة قلقة وحائرة، ولا سيما إذا وجدت فتاوى
متناقضة حد السيف بالسيف، فهذا يرى (الحرمة) والآخر يرى (الوجوب)،
فثورة مصر.. مثلاً أحدى النماذج، ففي حين أن الشيخ القرضاوي يرى أن
(مبارك) طاغوت ويجب إزاحته، يرى مفتي الديار السعودية بحرمة انتزاعه من
منصبه لكونه خليفة المسلمين وولي أمرهم في مصر ويحرم الخروج عليه!!
ما هو سبب تلون هذه الفتاوى؟! هل هو عامل تشخيص الموضوع؟! أم هو
الاجتهاد وقيادة الدليل؟! أم أنها سياسة صرفة؟! من أن اللسان يعجز عن
الوصف ؟!
ثورتان ومكيالان:
تتفق معظم الآراء العربية في ظلم القذافي لشعبه، وأنه يمثل
الدكتاتور والسفاح الذي أعاد لليبيين مجازر الحجاج الطاحنة، إذ يعتبرون
ثورة الشعب ثورة مشروعة، وينبغي لكل الشعوب الصادقة أن تقف معها ضد هذا
الزعيم المجنون الأهوج، إلا أننا نعيش تناقضا مريعاً حينما نصل إلى
ثورة ( 14 فبراير) البحرينية، فنشاهد أن الجيش المخضرم (درع الجزيرة)
يستعرض غطرسته على شعب مسلم أعزل، لا يحمل غير الورود والأعلام الوطنية،
أين هذا الجيش العتيد عن غزو دولة الكويت في أيام النظام البعثي البائد؟!،
أليس من الاتفاقيات أن يصد العدوان الخارجي عن دول مجلس التعاون؟!
نعم شاهدناه يقف بقوة في شؤون داخلية لا تمت له بصلة، شاهدنا كيف
يبطش ويفتك بالحمائم البريئة المسالمة؟!، أينه عن السبُع المتوحش حينما
أشتد الزئير؟! إنها لعبة بمكيالين وميزانين غير متكافئين، إنها ثورة
تقوض في الداخل من الخارج لمصلحة معلومة الأنفاس و مألوفة الأجراس!!
حوار أم رشق نار ؟!
كان ديدن الشعوب العربية المتعقلة رفع راية الحوار الوطني والمجادلة
بالتي هي أحسن، من أجل البلوغ إلى (كلمة سواء) على نهج دين السماء، حتى
أن ذلك التحضر قفز بالمؤسسين لهذه الحكمة الفكرية المعتقة إلى مكسب
كبير هو محاورة الأديان برمتها، غير أن المعادلة مع الشعب البحريني
تبدلت وانتكست إلى استخدام النطع والسيف حواراً متحضراً وبالطريقة
القذافية!!
باء تعمل وأخرى متعذرة!!
رغم طول البحث إلا أن الأنامل تعبت دون جدوى، فمن كان يراهن على
الفتوى لقمع المسيرات السلمية في الداخل، لم نجده استند إلى فتوى
بلاطية عصماء أخرى تشرعن له سفك الدماء في دول الجوار، يبدو أنه نسي
حذائه من شدة الهرولة!!، يحتاج للاعب المحترف أن لا ينسى الطريقة
المزورة حتى لا يُكشف عياناً في وضح النهار!!
المصاهرة وشرعنة القتل:
في زمن الجاهلية كانت الدماء تسيل حينما يتوتر عرق النسب في قضية ما
دون وجهه حق، أما في عصر الإسلام الحنيف فإن كل تلك الدعاوى تهاوت
ونبذت من الجذور، لكونها دعاوى حمقاء تترفع عنها النفوس السليمة، فكل
عصبية لنسب أو صهر فإنها عصبية مقيتة حاربها نبي الإسلام (ص) وقال عنها:
(دعوها فإنها منتنة)!!
شماعة الطائفية:
كثيراً ما نشاهد اندلاع هذه الشماعة في وسط الأحداث بين الحين
والآخر، من أجل قطع طريق أو صد سبيل، ولنا في القرآن نور وهدي إذ يقول:
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم…)، ونتعجب حينما توصف ثور الشعب البحريني
بأنها (ثورة طائفية) على لسان الشيخ القرضاوي الذي يفترض أن يتحقق قبل
أن يتفوه، والقرآن يدعوه للتبين والإنصاف، (…فتبينوا أن تصيبوا قوما
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا إن الله خبير بما تعملون)، واليوم نشاهد
الاحتجاج والتنديد من الشعوب السنية قبل الشيعية، والعالم الغربي قبل
العربي لمجزة سترة وغيرها من المدن البحرينية، أمام هذا العدوان السافر
وإراقة الدماء البريئة المسلمة من قبل جيش يلهج بكلمات التوحيد، ويقرأ
قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله
عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)!!
الإعلام المقلوب!!
الشاشة الصفراء الفاقعة الكذب هي عدوة للإنسانية قبل أن تكون عدوة
للدين، ولكن المجرمون اليوم يتحالفون وينفقون المليارات من أجل قلب
الحقيقة أمام الناس، بل يتفننون في مكيجة الصورة ويبرعون في عكس
الحقيقة، إذ يصدق الله عليهم حديثه بكشف سوءاتهم وتلونهم وازدواجيتهم
ومكرهم المقيت في قوله الكريم: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ
يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)،
ولكن الحقيقة - رغم ذلك - ستظهر ليتم الله على الناس حجته البالغة!
شهيد في وسط الدوار:
طرفة من غير مكياج تذوقها العالم بأسره في هذه الثورة المظفرة، فبعد
العجز الذريع من السيطرة على الشعب البحريني الثائر، لم يصل الطاغوت
لحل سوى انتزاع لؤلؤة الدوار، إذ يظن أن السر يكمن في وجود هذه اللؤلؤة
العجيبة، ولكن النكتة الفاقعة اللون هي في ذلك الشهيد الذي وقعت عليه
تلك اللؤلؤة - دون أن يتسلم أجره -؛ لتعلمه درساً لا ينساه العقلاء!!،
إلا أن اللؤلؤة الحقيقية ليست في المجسم الخرساني الذي يتربع على قمة
الدوار، بل هي الحرية والإرادة الفولاذية التي في قلوب الجماهير، ولن
تنتزع إلا بالشهادة! |