ان احداث التغيير في النظرة
الانسانية هو بداية احداث التغيير في العالم
تضم الخارطة السياسية والفكرية بالوطن خاصة والعالم العربي الاسلامي
عامة توجها عقلانيا تنويريا يعتمد الاسلام الحضاري كمرجعية ايديولوجية
ويتبني القيم الكونية التي تضم ثقافة الديمقراطية والمواطنة ومنظومة
حقوق الانسان ويؤمن بالدولة المدنية ويحترم مختلف التشريعات الدستورية
والمجلات القانونية ويتواصل في الآن نفسه مع الثقافة الوطنية والتراث
النضالي لحركة التحرر المدني من الاستعمار والامبريالية.
اللافت أن الذين ينتمون الى هذا التوجه ينشطون بشكل مستقل وفردي في
العديد من الأحزاب والمنظمات النقابية والهيئات الحقوقية والجمعيات
الثقافية واتحادات الكتاب والمنتديات الاعلامية والمنابر الصحفية
ومعظمهم ينحدر من مختلف العائلات السياسية اذ هناك الاسلام الليبرالي
والاسلامي التقدمي والقومي المسلم واليساري المتدين والوطني المسلم
والتدين الاجتماعي والمجتهد المصلح والمثقف الملتزم.
غير أن البعض من المراقبين للشأن السياسي انتظروا تحول هذا التوجه
من الاستقلالية الى التنظم ومن العمل الثقافي الى العمل السياسي ومن
العمل المشترك مع عائلات سياسية لها هويات حزبية خاصة بها الى العمل
المؤسساتي في اطار هوية سياسية ذات توقيع مميز وفريد ومن مجرد المساندة
والارفاد وتقديم العون الى المساهمة والمشاركة والفعل الميداني
والتأثير في الواقع المجتمعي وتجسيد مشروع الكتلة التاريخية وتنشيط
الفضاء المواطني وتوسيع الحقل الديمقراطي.
ما يبرر مثل هذا الانتظار هو أن بروز هذا التوجه التقدمي على السطح
حتمية تاريخية وحاجة وطنية بعد أن أخذ وقته بما يكفي وتبلور على نار
هادئة ومارس لعقود تجارب النقد الذاتي والتنوير البطيء وتشبع بالثقافة
المدنية وتمرس على تقنيات التواصل والتسامح ونهل من الجانب النير من
التراث واستأنس بالقيم التقدمية التي يتوفر عليها الدين، وان الأشخاص
الذين يتبنون هذا الخيار يتصفون بالحكمة والتبصر والتجربة النضالية
والقدرة على البذل والافادة ويؤمنون بالتعددية وحق الاختلاف والحقوق
الحريات.
غير أن بقاء الأمور على حالها بعد الثورة العربية بالنسبة الى دعاة
الاسلام المستنير ورفض بعض رموزه العمل السياسي الحزبي أو عزوفهم عن
الإعتماد المرجعي لهذه الأفكار في الأدبيات التأسيسية لأحزاب قيد
التأسيس والتوجه نحو خيارات ضبابية أو اعادة انتاج نفس اللغة السياسية
المهترئة هو أمر يدعو الى الاستغراب والمساءلة التقييمية. فكيف نفسر
هذا التأخير في التنظم بالنسبة الى الاسلام المستنير؟ وماهي الأسباب
التي تدفع بعض الشخصيات الاعتبارية الى تهرب من السياسي الجماعي مع
تدخلها في الشأن العام كأفراد ومن باب النشاط الجمعياتي والحقوقي؟
ولماذا ظل توجه الاسلام المستنير يبحث عن نفسه سياسيا رغم عراقته
وأصالة أفكاره وثراء أدبياته؟ وهل قدر الاسلام المستنير أن يظل ضمن
المجتمع المدني ومجرد واجهة اعلامية ودعامة ديبلوماسية للقوة السياسية
المهيمنة في المجتمع السياسي؟
المعطى الآخر أن طفرة التحزب والتكالب على الانتماء أفضت الى تبني
البعض من الكيانات الناشئة لمصطلحات لطالما دعا اليها هذا التيار مثل
الحرية والكرامة والتنمية والعدالة والمساواة، في حين أن البعض الآخر
قد سارع الى استخدام العدة المنهجية وأدوات التحليل والجهاز المفاهيمي
من أجل تذليل العقبات التي عاني منها في السابق وحالت دون تواصله مع
المحيط الثقافي والاجتماعي وامتلاكه لنظرية فكرية متكاملة وبديل حضاري
شامل، ولعل الخوف هو أن يكون هذا الاستعمال تدجينا ويسقط في عنف تأويلي
ويوضع المفاهيم في غير موضعها ويكون كلام حق يراد به باطل.
هذه العطالة التي أصابت التوجه الاسلامي المستنير تطرح عدة افتراضات:
- لا يمتلك مشروعا سياسيا ولا يشكل المدخل المناسب للإصلاح السياسي
والتحديث الاجتماعي.
- التركيز على التربية والتنوير والتثقيف وتفضيل عدم الدخول في
السياسة ومعاركها الضارية.
- يشكل مشروعا مستقبليا ولا يزال الوقت غير مناسب لكي يدخل غمار
السياسة ويتلوث بغبارها.
- يتضمن نظرية سياسية تتميز بالرشد والاتزان ولم تجد الى حد الآن
الاطار التنظيمي والمؤسساتي الذي يقدر على ترجمتها فوق مسطح المحايثة
العمومي.
ربما الفرضية الأخيرة هي الأكثر رجحانا وآيتنا في ذلك ما يلي:
طليعة الطبقة المتوسطة التي تنتسب نفسيا ونضاليا الى الطبقة
العاملة فإن بإمكانها أن تقوم بعملها النظري في التراث والتجديد وأن
تناضل بالفعل وأن تجند الجماهير وأن تمارس السياسة يوميا من أجل تحقيق
ايديولوجيتها
لكن لماذا ظل الاسلام المستنير مسجلا خارج اطار الخارطة السياسية
النشطة؟
ان أهم الأسباب التي حالت دون تشكل كيان سياسي مؤسساتي يحمل توجهات
الاسلام المستنير هي:
- الانغلاق على الذات والاصطفاف النخبوي والانحصار داخل الأوساط
الحضرية واهمال مسألة الحضور الشعبي والتغلغل الجماهيري.
- مركزية النشاط والاقتصار على العاصمة والمدن الكبرى وعدم العناية
باللامركزية والمناطق الداخلية والأرياف.
- التفرد بالرأي والتشرذم وتشتيت المجهود واهمال قانون الترسب
والتراكم وغياب العمل الجماعي المنظم وانعدام الحوار بين الأفراد وحدوث
صراع بين البعض على الخطط المستقبلية والبرامج والتوجهات.
- تضخيم النشاط الثقافي واعطاء اولوية للتعريف بالتقليعات الفكرية
دون نقد أو تمحيص ومحاكاة الموضة الثقافية دون تحيين للأدبيات مع روح
العصر ودون مواكبة التحولات والاستجابة لانتظارات الطبقة الصاعدة ودون
تلبية الحاجات المعرفية والروحية للفئات الشابة والحركة النسوية.
- الخجل الوظيفي في علاقته بالواقع وتبني مذهب انتظاري ارجائي على
صعيد الموقف السياسي والاكتفاء بنصرة المجموعة الحاكمة والتفاني في
خدمتها واسنادها ثقافيا واعلاميا.
- شيخوخة القيادات وتهرم الكوادر القديمة وانقطاع الجدل بين الأجيال
وغياب الديمقراطية الداخلية في الجمعيات والهيئات التي تسيطر عليها هذه
النخب ودخولها في تحالفات غير مبدئية مع شخصيات غير مقبولة شعبيا من
حساسيات أخرى ومهادنة لدعاة العودة الى الماضي.
- حب الظهور في المرئيات والاصابة بمرض الزعاماتية الفارغة والجري
وراء احتلال المواقع والبقاء فيها والبحث عن الشهرة والغنيمة والانخراط
في لعبة المقاولة الحقوقية العابرة للقارات.
- ضعف المردودية النضالية والابتعاد عن المشاكل الحقيقية للناس
ومحاكاة ثقافة المنتصر وتقليد الغرب والبحث بكل الطرق عن التسلق الطبقي
والتبرجز المصطنع حتى ولو كان ذلك على حساب قيم الايثار ونكران الذات
والتفاني في خدمة الغير ومبادئ التضحية وحب الناس.
رغم هذه العراقيل والأخطاء المتعمدة والخيارات المفلسة يظل الأمل
قائما ويبقى مكان موجود للإسلام المستنير داخل المشهد السياسي التونسي
خاصة والعربي الاسلامي عامة يقوم بدور الوسيط بين المرجعيات ويسهر على
صيانة قيم الثورة والتأليف بين التجذر في التراث والاستفادة من الكونية.
من هذا المنطلق يمكن التنصيص على حق التنظم السياسي القانوني للتوجه
الاسلامي المستنير والاشارة الى ضرورة التحلي بالاستراتيجيات النظرية
والتدبيرات الاتيقية التالية:
- التركيز على معالجة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والحياتية
والاستناد على فقه المعاملات.
- الاهتمام بالجانب القانوني المدني والاستعانة بما يوفره الشرع من
نواميس كونية وقواعد كلية.
- التجذر في الشعب والانصات الى نبض الشارع والوفاء لقيم الثورة
والاستجابة الى صوت الشباب وحراك العمال والمثقفين العضويين.
- التحلي بالنضالية الثورية والالتزام المؤسساتي ووضع الأنفس في
خدمة الناس والاخلاص للأفكار والتسلح بالموضوعية والحياد الايجابي تجاه
التوجهات المغايرة.
- الاستقلالية التنظيمية والتميز البناء وتوضيح الرؤية و نحت هوية
سياسية متوازنة تؤلف بين العروبة والاسلام والانسانية التقدمية وتضع
مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
- التدرج والعلنية وتحكيم المصالح والاستحسان والانفتاح على المختلف
والتحلي بالمرونة والواقعية النقدية وفقه الأولويات.
- تبني النهج العقلاني التنويري وثقافة التحديث والتطوير والعصرنة
واطلاق حرية الابداع والاجتهاد والتأويل وتشجيع الفنون والعمل الطوعي
والبيئي والحضاري.
- التأليف بين رؤية اصلاحية تربوية ومشروع ثوري تغييري في توجهات
المجتمع وهياكل الدولة وتحقيق المصالحة بين المقاومة والاستثبات من جهة
والتحديث والعولمة البديلة من جهة أخرى.
ان الأمر لا يتعلق هنا ببرنامج مرحلي لجبهة من القوى بل بأهداف
تاريخية يتطلب انجازها قيام كتلة تاريخية تضم أكثر ما يمكن من الشرائح
والفصائل والنخب... والاتجاه نحو تأسيس وتأصيل عمل جماعي ضمن مشروع
للوطن ككل يجعل من المصلحة الوطنية والقومية العليا المرجعية التي
تنحني لها جميع المرجعيات الأخرى.
ان تشكل كيان سياسي ينهل من مرجعية الاسلام المستنير هو شرط امكان
قيام كتلة تاريخية تنبذ التعصب للمذهب وترفض العنف وتؤمن بالسلم وتعتمد
على استراتيجية التحالف بين التيار القومي والتيار الاسلامي وتفعل
الحوار بين العلمانيين والإيمانيين وتحاول التقريب بين وجهات نظر
اليسار واليمين من أجل تحقيق الوحدة الوطنية والنهوض بالبلاد من حالة
الركود الى حالة التمدن والازدهار. فمتى نرى العائلة الاسلامية العربية
التقدمية موحدة في اطار تنظيمي واسع يخدم الوطن والأمة ويساهم من موقعه
في التعددية وبناء مؤسسات عصرية ضمن دولة ديمقراطية؟
* كاتب فلسفي
...................................................
المراجع:
حسن حنفي، التراث والتجديد، منشورات مجد، بيروت،
الطبعة الخامسة، 2002.
محمد عابد الجابري، نقد الحاجة الى الاصلاح، مركز
دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة أولى، 2005. |