قهوة عزاوي والفيس بوك العراقي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: قهوة عزاوي مضرب المثل في المأثور الشعبي العراقي، ترد للدلالة على اختلاط الحابل بالنابل في الاحاديث بين مجموعة من المتحاورين واي مراقب او مستمع لهذه المجموعة تراه يردد (عبالك قهوة عزاوي).. وهي تشبه المثل الاخر (حمام نسوان) الذي يرد للدلالة على كثرة الكلام في مكان ما دون الخروج بنتيجة لهذه الكثرة والتقاطعات من الكلام.

المقهى لاوجود له في الواقع، في جغرافية المقاهي العراقية وتاريخيها، بل هي وردت في اغنية لناظم الغزالي المطرب العراقي الشهير يقول فيها: (ياكهوتك.. عزاوي.. بيها المتيّم زعلان) من هنا اشتق الاسم الذي اصبح مضرب المثل.

المقهى، اي مقهة هو عالم واسع من المكاشفات الحميمة بين رواده وهو عالم واسع من الاحتجاجات والضجيج والصخب، تضيع نصف الاصوات بين المناداة على الشاي او الحامض ابرز مشروبين يقدمها المقهى ويستقر النصف الاخر في اذان المستمع المواجه للمتحدث او القريب منه.

قهوة عزاوي المتخيّلة وغيرها من المقاهي الواقعية صورة مصغرة لاي مجتمع في حراكه السياسي والاجتماعي والثقافي.. مع استثناء مهم للغاية وهو ان هذه المقاهي يقتصر حضورها على الرجال فقط مع استبعاد النساء، واتحدث هنا عن المقاهي التقليدية، وخاصة في العراق، لهذا تكون تلك المقاهي حاملة لصفات الذكورة وصخبها واحاديثها المكشوفة وحتى شتائمها ومفرداتها اليومية.

 يذكر الباحثون ان أول مقهى شيد في بغداد هو مقهى (خان جغان/عام 1590) في العهد العثماني، ثم توالى ظهور المقاهي بعدها ضمن سياق عفوي ووظيفة لا تكاد تتعدى اللهو والمتعة وقراءة الصحف، لكنها تتطور مع تطور الحياة الى اداء وظائف جديدة في الادب والفن والسياسة.

وتعد السياسة وقضاياها هي الوظيفة الابرز للمقاهي بوصفها منتدى تجمع المثقفين من شعراء وأدباء وفنانين وسياسيين، جنباً الى جنب مع ما كان يؤديه الخطباء من دور في إثارة حماس الناس في المساجد والجوامع في السر والعلانية، فضلاً عن دور المجالس الأدبية.

 لشارع الرشيد الذي افتتح في عهد الوالي العثماني خليل باشا عام 1916 حصة الأسد من هذه المقاهي الأدبية الشهيرة، إذ قامت على جانبيه كل من مقاهي: الشابندر، والزهاوي، وحسن عجمي، والبرلمان، والبلدية، والمقهى الفني (أم كلثوم).

كما كان شارع الرشيد ومقاهي منطقة (الحيدر خانة) تحديداً، البؤرة التي تنطلق منها تجمعات المثقفين والسياسيين ومظاهراتهم المعارضة.

ولعل من أبرز الشخصيات الثقافية التي غذت الحماس الوطني وألهبته مع بدء ثورة العشرين في 30 حزيران 1920 الشاعر والخطيب المعروف محمد مهدي البصير.

وفي الثلاثينيات شهد شارع الحيدر خانة نفسه ومقهى (عارف آغا) عدداً من الاحتفالات التي كان يحييها الشاعر معروف الرصافي، لتتحول الى مظاهرات تخرج من المقهى لتنضم الى الحشود، يشترك فيها عدد من أبرز الوجوه الوطنية والثقافية في العراق.

وشبيه بهذه الاحتفالات ما كان يقوم به شاعر العراق محمد مهدي الجواهري وهو خارج من (مقهى حسن عجمي) او مقهى (البرلمان)، ليلقي قصائده العصماء التي تجر وراءها مظاهرات تبدأ ولا تنتهي.

تراجعت الان تلك الوظائف للمقاهي العراقية الا قليلا، واصبح يقتصر معظم روادها على الكبار في السن الذين يحاولون التشبث بما تبقى من سنواتهم الراحلة.

اما الشباب فقد اتجهوا مذاهب شتى في اللقاءات وتمضية اوقات الفراغ.. اصبح لديهم الان مقاهي الانترنت حيث تستطيع بكبسة زر واحدة ان تسافر الى العالم وترى عجائبه وغرائبه وتتعرف على ناسه وانت جالس في مكانك لم تتحرك خطوة واحدة.

الفيس بوك في بلداننا العربية اخذ تدريجيا يحل محل المقهى، واصبح لكل واحد منا مقهاه الخاص يدعو للجلوس اليه من يريد ويتم الحديث بمختلف المواضيع لكن دون استطراد او مطولات.

انه مقهى يمتاز بقلة الكلمات، التي تؤدي الغرض منها.. ولكنه ايضا لم يستطع ان يرتقي الى وظائف المقهى السياسية والثقافية في الاغلب الاعم من مقاهيه (صفحاته) تبعا لشخصية صاحب المقهى وشخصيات ضيوفه.

اغلب الاحاديث يغلب عليها الطابع الشخصي، وتحديدا العاطفي منه، دون عمق،  اللغة ركيكة مع اخطاء كثيرة وكافرة في الاملاء والنحو. ابتذال لغة الحوار في السياسة او الشؤون العامة وانحطاطها، مع استعمال مفردات السب والشتيمة. كثرة المجاملات وممارسة النفاق الاجتماعي عبر كيل المديح للآخرين دون وجه حق لأي شيء يتم الحديث عنه.

الكثير من المرتادين لمقاهي الفيس بوك يتخفون بأسماء مستعارة وصور لا تمثل وجوههم.. والاسباب عديدة.

تختلف المقاهي الواقعية عن مقهى الفيس بوك ان المتخاصمين لا يستطيعون ان ينقلوا خلافاتهم وشتائمهم الى مستوى العنف الجسدي بل يبقى هذا العنف محصورا في جانبه المعنوي، وهو الاشدّ خطورة... واختلافات اخرى عديدة يستطيع اي باحث ان يضع يده عليها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/آذار/2011 - 2/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م