قد لا يختلف اثنان على ضرورة تصحيح مسار العملية الديمقراطية في
العراق، التي أخذت مسالك ابتعدت فيها، خلال الأعوام الثمانية الماضية،
عن بعض من أهدافها في التداول السلمي للسلطة وتحقيق العدل والرفاه
الاجتماعيين.
جموع الناخبين هبت في انتخابات 2010 البرلمانية للإدلاء بأصواتهم،
متحدين خطر استهدافهم من قبل الإرهابيين والمتربصين بالعملية السياسية،
فيما اختلف قادة العراق حول الكتلة التي ستشكّل الحكومة التي يفترض
أنها تعكس تطلعات الناخبين، الأمر الذي أدى استمرار هذا الجدل العقيم
إلى ما يقرب من العام. حكومة تألفت وكانت مخيبة لآمال العراقيين، تعززت
فيها المحاصصات الحزبية والفئوية الضيقة وابتعدت عن المهنية.
كل هذا حدث بينما كان المواطن العراقي يرزخ تحت وطأة النقص الحاد
بالخدمات الأساسية ومفردات البطاقة التموينية، ناهيك عن البطالة التي
وصلت إلى مستويات عالية في بلد يقبع على بحيرات من النفط والموارد
الطبيعية الأخرى، الأمر الذي ولّد شعورا سيئا لدى العراقيين، وزاد من
حالة الاحتقان لدى الشارع العراقي في ظل تفشي فضائح الرشى والفساد
الإداري والمالي والتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، واستمرار انقطاع
الخدمات بدرجة غير معقولة.
لقد رأينا كيف اتفق المحتجون العراقيون بكل أطيافهم وقومياتهم، في
جمعتي الغضب والكرامة، على مطالبهم المشروعة التي تنوعت من تحسين وضع
الكهرباء في البلاد، وتوفير الوظائف للعاطلين عن العمل إلى إقالة
المحافظين إضافة إلى إنهاء الفساد وإصلاح الوضع القائم ومحاسبة
المفسدين والقضاء على المحسوبية والمنسوبية، وهم بذلك اختلقوا عن كثير
من الثورات التي تجتاح حاليا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أنهم كانوا
يدعون للإصلاح وليس للتخلص من الحكومة.
المرجعية الدينية العليا التي أعلنت عن مساندتها لحق التظاهر
والتعبير على الرأي، وجهت خطابا للحكومة ومجلس النواب لا يخلو من الشدة
بضرورة اتخاذ خطوات جادة وملموسة في سبيل تحسين الخدمات العامة ولاسيما
الطاقة الكهربائية ومفرادت البطاقة التموينية وتوفير فرص العمل
للعاطلين ومكافحة الفساد المستشري في مختلف دوائر الدولة واتخاذ قرارات
حاسمة بإلغاء امتيازات المسؤولين في الدولة والامتناع عن استحداث مناصب
حكومية غير ضرورية. وبهذا فقد حصلت التظاهرات على مباركة مشروطة من
جانب المرجعية ودعم لا يستهان به من الشارع.
الحكومة من جانبها، وعلى لسان عدد من مسؤوليها، لا تملك العصا
السحرية التي ستصلح بلمح البصر الحال المزري في البلاد، فما الحل إذن؟
هل الحل يكمن في استمرار الاحتجاج إلى أن يسقط النظام الحاكم في العراق
وأن يصار إلى الرجوع إلى المربع الأول للفترة التي أعقبت سقوط
الدكتاتورية في العام 2003، وما سيرافقها من فوضى قد تؤدي إما إلى
تقسيم البلاد، أو إلى إصدار البيان رقم (1) الذي يبشر بدكتاتورية جديدة
في العراق؟ أم الاكتفاء بهاتين التظاهرتين الكبيرتين وما رافقهما من
مضامين فهمتها الحكومة والأحزاب السياسية الحاكمة على حد سواء.
في اعتقادي أن التظاهرات الأخيرة في العراق قد أتت بعض أكلها في
الضغط على الحكومة والكتل السياسية من أجل تحقيق مطالب المحتجين، وأن
الاستمرار بها ربما سيولد حالة من الملل لدى المواطن العراقي، لما
يرافقها من إجراءات أمنية مشددة وقطع الشوارع وفرض حظر التجوال الذي
يؤدي بدوره إلى قطع أرزاق الكثير من العراقيين.
وهنا تبرز أهمية اللجوء إلى وسائل سلمية أخرى، أقل ضررا، في إيصال
صوت المحتجين إلى الحكومة والبرلمان، منها تفعيل دور منظمات المجتمع
المدني الذي يعزز في جزء منه العمل الرقابي، إلى جانب زيادة وعي
المواطنين بالممارسات الديمقراطية، وتشجيع إنشاء مواقع التواصل
الاجتماعي التي باتت بمثابة السلطة الخامسة في بلداننا العربية. |