شعليّة معليّة... لن تصنع حدثا كالحدث المصري

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: اعرف ان غصّة كبيرة تعتمل في نفوس العراقيين وهم يشاهدون ما حدث ويحدث في مصر منذ 25 يناير على شاشات التلفزة العربية التي احتفت هي الاخرى بهذا الحدث..

تعددت اوجه التعبير عن هذه الغصة:

*لماذا لم يقف العرب معنا في العام 1991؟

* تخلصنا من صدام عن طريق الاحتلال.

المثقفون العراقيون (عبر الفيس بوك تحديدا) سجلوا غصتهم تلك بتعابير اخرى:

* يجب علينا ان نخجل مما فعلناه بانفسنا وبتاريخنا ومصيرنا كعراقيين، الآن يجب علينا أن نتعلم من المصريين درس الحضارة.

* هذا هو التغيير المشرف الذي يدعو للفخر.

* ما يثير تساؤلي هل كان باستطاعتنا التغيير بطريقة مشابهة؟ وهل نحن اليوم قادرون على صناعة التغيير في عراق لا نعرف له اولا او آخر.

* يوم الحب 14 شباط سيخرج العراقيون ضد الفساد والطائفية والمحاصصة ولفصل الدين عن السياسة والمواطنة وبشكل سلمي كامل.. ليتذكر العرب كيف وقف معهم العراقيون بانتماء الى آمالهم.. لا يريد العراقيون من الآخرين سوى المحبة.

* تحية لشباب مصر الشباب الذي هتف لصالح الوطن لا لصالح الطائفة، الشباب الذي صبر على الموت وقنابل المولوتوف والحجارة، الشباب الذي لم يتنافس على الظهور بمثابة القائد للثورة، الشعب الذي ينظف الآن ساحة ميدان التحرير من مخلفات الاطعمة والانقاض ولم ينتظر البلدية لتقوم بذلك. كل هذه الأمور من أكبرها لأصغرها يجب ان نتأملها جيدا قبل ان نفكر بتغيير واقعنا.

وهي غصة مشروعة في رثاء الذات العراقية التي توقعت في العام 2003 ان يلبي التغيير احلامها وطموحاتها.

في العام 1991 تم قمع الانتفاضة الشعبانية بقسوة وتنكيل شديدين.. قوات النخبة في الجيش العراقي هي من قامت بذلك التنكيل.

في المحكمة الجنائية الخاصة تعاطف الكثيرون مع سلطان هاشم وزير الدفاع العراقي.. مبررين ذلك الدفاع عنه بانه لم يكن لديه حول وقوة للاعتراض على الكثير من قرارات صدام حسين وعبثه بالمؤسسة العسكرية العراقية.

الجيش المصري يلتزم الحياد ولا ينكل بالمتظاهرين.. بل يهدد من اسماهم بالبلطجية.

في العام 1991 بلغت مستويات الثأر اعلى مناسيبها بمطاردة البعثيين ورجال الامن والمخابرات في المحافظات المنتفضة.. وقتلهم باشع الوان القتل.

انتشار رقعة الفرهود على مساحة واسعة من مساحة تلك المحافظات (لم يكن هناك حصار اقتصادي فاعل بعد).. حدث القليل منه في مصر.. والف الاهالي لجان شعبية للممتلكات الخاصة والعامة بصورة واسعة لم يحدث مثلها في عراق العام 1991.

ماكينة صدام الاعلامية اطلقت تسمية الغوغاء على المنتفضين وسار على نهجها كثير من العراقيين.. الاعلام المصري اطلق تسمية البلطجية على قسم ممن شارك في التخريب ولم يعمم التسمية على الجميع..

الشعارات المرفوعة في الحدث المصري لا يمكن مقارنتها بشعارات الحدث العراقي.

الحدث المصري تحت المجهر، على العكس من الحدث العراقي عام 1991.

نحن الان في العام 2003.

الانظار باتجاه ساحة الفردوس حيث الجندي الامريكي يحاول اسقاط تمثال ضخم لراس صدام حسين.. يستعين بالدبابة لاسقاطها.. بعدها جميع المظاهرات التي تنطلق في بغداد تكون وجهتها ساحة الفردوس مع ان هناك الكثير من الساحات التي لم يتدخل الجندي الامريكي في اسقاط تماثيلها التي تجسد صدام حسين.. لا نملك مثل المصريين ميدانا للتحرير بنكهة عراقية خالصة لا ترتبط بحدث اسقاط صدام حسين والتحرر من دكتاتورية.. اضف الى ذلك بؤس النصب الذي شيد فيه بعد العام 2003 والذي هزأت به عاديات الطبيعة من امطار واتربة وحرارة، وكأن الفنان العراقي عجز ان يجسد تلك اللحظة، لحظة سقوط الصنم، بعمل فني يكون مفخرة للشاهدين على الحدث ولاجيال قادمة اخرى.

فميدان التحرير، في القاهرة، سمي في بداية إنشائه باسم ميدان الإسماعيلية، نسبة للخديوي إسماعيل، ثم تغير الاسم الى (ميدان التحرير)؛ نسبة إلى التحرر من الاستعمار في ثورة 1919 ثم ترسخ الإسم رسميا في ثورة 23 يوليو عام 1952.

يحاكي الميدان في تصميمه ميدان شارل ديجول الذي يحوي قوس النصر في العاصمة الفرنسية باريس.

ولا نتحدث عن اعمال السلب والنهب والتخريب التي حدثت.. وكانت ابشعها على مستوى الشعور الانساني سرقة اسرة المرضى ذات العجلات بعد رمي المريض من فوقها.

اين تذهب تلك المسروقات؟ الى بيوتنا.. من يشاهدنا؟ اصدقاؤنا وجيراننا.. هل كنا نشعر بالخجل ونحن ناتي بهذه المسروقات الى منازلنا؟ طبعا لا.. هل حدثت حركة احتجاج ورفض شعبي لهؤلاء السراق؟ لم تحدث.

بعد ايام انتشرت اسواق جديدة فيها جميع انواع البضائع المسروقة.. نعلن تضامننا مع الباعة المتجولين الذين يعتاشون على شراء وبيع هذه البضائع ضد اي حملة لرفع التجاوزات التي تعلن عنها الحكومة.. خطية، وين تروح الناس.. احسن تقتل.

اما ان يسمح لنا بالتعامل بالمسروقات واما ان نزرع العبوات لقاء 50 الف دينار عراقي.

كبر السراق الصغار واصبحوا حيتانا.. انهم يتقدمون الى بناتنا للزواج منهن.. نعلن موافقتنا وتعم الافراح.. خوش قسمة.

نزوجها للشرطي يحتفظ براتبه كله وينفق على بيته مما حصل عليه من الرشوة.. خوش قسمة.

نمد سلكا كهربائيا الى شارع اخر، نتجاوز على حصة مواطن اخر من الكهرباء.. نبرر لانفسنا.. نشيّد دورا على اراضي لا تخصنا.. نبرر لانفسنا.. نتجاوز على الارصفة امام محلاتنا.. نبرر لانفسنا..

وقس على ذلك الكثير من صور الاستحسان والقبول لهؤلاء السراق والفاسدين وللصور الاخرى من فساد انفسنا وضمائرنا وسلوكنا.

كل هذا يحدث تحت الشعار العراقي الشهير (شعليّه معليّه).

يرى احد الباحثين (د. عامر صالح) في معرض حديثه عن الفساد المالي والاداري في العراق:

إن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة أو ما يسمى (ثقافة الفساد) مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية,ومن ترسخه كنمط سلوكي لإشباع الحاجات المختلفة والاكتفاء الذاتي, وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقى الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف, ويعتبر نوعا من الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه, وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية.

وعلى هذا الأساس يتحول الفاسد من شخص مجرم يجب أن يساق إلى العدالة إلى شخص قاضي حاجات أو (حلاًل مشاكل).

ففي الوقت الذي كان فيه الفاسد يسير منحنيا بإذلال يخشى أن يعلم به احد جيرانه أو أبناء منطقته, ويذكرني ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات عندما كانت تعلق صور الفاسدين(السرَاق منهم) في مراكز الشرطة ويكتب أعلاهم بخط عريض (أحذروا هؤلاء),اليوم يفتخر الفاسد بمكتسباته وبمهاراته وماله الحرام.., ولم يعد الفاسد يخشى المواطن بل انتقل الخوف إلى المواطن وأصبح الجميع يحسب آلف حسابا له ,لأنه يمتلك السلطة والمال والقرار السياسي, فهو الكادر الحزبي أو القيادي في حزب ما, وهو المدير العام, وهو الموظف الصغير والوزير أو عضو البرلمان وهو أيضا حامل المفخخات والأحزمة الناسفة..,بل نبحث عن الفاسد لتسهيل معاملاتنا مهما كانت صعبة, وهو الذي يأتي لنا بالماء والكهرباء والخدمات المختلفة, ويضمن لنا التعيين في أي موقع وفي أي دائرة نرغب بعد أن يمنحنا الشهادة المزورة ويصدر لنا أمر التعيين ,وكل ذلك مقابل هدية بحجمه, وإذا لم نقبل بشروط الفاسد فأنه قادر على أن يفرض عليك حصارا لا تقوى الأمم المتحدة على رفعه, فلا غرابة من أن 80% من مراجعي دوائر الدولة العراقية يدفع رشوة لانجاز معاملته.

وكل هذا تحت شعار (شعليّه معليّه) العراقي الشهير.

اختم بمقولتين للمؤرخ بيتر مارشال الاستاذ في إحدى جامعات لندن:

(لا يتم بناء عالم مختلف من خلال شعب لامبالي).

(معظمنا يعرف تماماً ما الذي يجب عمله، و لكن مشكلتنا في أننا لا نريد عمله).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/شباط/2011 - 11/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م